للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والحديث عن الفاصلة قديم قدم الدراسات الأدبية للقرآن، فقد أكّد الرماني في تعريفه الأدبي للفاصلة سموّها واختلافها عن الأسجاع، وقال: «الفواصل حروف متشابكة في المقاطع، توجب حسن إفهام المعاني، والفواصل بلاغة، والأسجاع عيب، ذلك لأن الفواصل تابعة للمعاني، وأما الأسجاع فالمعاني تابعة لها» «١».

والرماني يرى أن التعلق الشكلي المتعيّن في مماثلة الأصوات في الرّويّ يدعو إلى التكلّف المستهجن، وهذا مستفاد من أصل تسمية الأسجاع، فسجع الحمام يعني ترديد الصوت نفسه، وكذلك السّجع في فنّ النثر، وكأنّ الرماني يلمّح إلى وجود فواصل متقاربة الروي في القرآن، فبناء الفواصل ينطوي غالبا على المغايرة والتنويع، مراعاة

للمعاني، وهذه الفضيلة تبعد السّجع عن أسلوب القرآن.

ومن الذين تحمّسوا قديما لقضية نفي السجع أبو بكر الباقلاني، وهو يقوم بهذا الردّ جاهدا في ربط المفردة الأخيرة من الآية بسياق المعنى الكلي، يقول:

«ولو كان القرآن سجعا لكان غير خارج عن أساليب كلامهم، ولو كان داخلا فيها لم يقع بذلك إعجاز، ولو جاز أن يقال: هو سجع معجز، لجاز لهم أن يقولوا:

شعر معجز، وكيف والسجع مما كان يألفه الكهان من العرب، ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجّة من نفي الشعر، لأن الكهانة تنافي النّبوّات، وليس كذلك الشعر» «٢».

فهو بعد هذا الرد المنطقي يذكر شواهد من مثل تقديم موسى على هارون في موضع، وهارون على موسى في موضع آخر.

ونقف عند نقطتين في عبارة الباقلاني، الأولى: أن كلامه يوحي بأن جميع القرآن متّهم بالسجع، وإذا كان السجع مماثلة في الرويّ، فقد وقع في القليل منه، وإذ استقلّت الفواصل المتماثلة بإحدى عشرة من السّور القصار وهي: القمر والقدر والعصر والكوثر والأعلى، والليل والشمس والمنافقون والفيل والإخلاص والنّاس.


(١) الرماني، علي بن عيسى، ثلاث رسائل في الإعجاز، ص/ ٨٩.
(٢) الباقلّاني، أبو بكر، محمد بن الطيب، إعجاز القرآن، ص/ ٨٦.

<<  <   >  >>