للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أما مقارنة البيان القرآني بالشعر فهي بعيدة عن التحقيق، لأن قيود القافية والوزن أبعد ما تكون عن نظم القرآن.

والنقطة الثانية: خروج القرآن عن أساليب كلام العرب، وقد دأب دارسو الإعجاز يعلّلون الصور والمجازات بقولهم: كانت العرب تقول كذا، وربما كان هذا زائدا عن حدّه أحيانا.

ولقد توسّم ابن سنان غاية الفصاحة في وجود بعض المماثلة في الكلام، فلا يكون كلّه مسجوعا، يقول: «إن القرآن أنزل بلغة العرب، وعلى عرفهم وعادتهم، وكان الفصيح منهم لا يكون كلامه كلّه مسجوعا، لما في ذلك من أمارات التكلّف والاستكراه والتصنّع، ولا سيّما فيما يطول من الكلام» «١».

ويستفاد هنا من كلام ابن سنان أن المواضيع القرآنية هي التي تتحكم في وجود السجع أو قرب السجعة أو بعدها، وهذا جليّ في أسلوب القرآن، فالسور المدينة تحتاج أفكارها إلى التفصيل، مثل آية الدّين، وآية الحجاب، وآيات التّوريث، فهذا يحتاج إلى دقّة تشريعية، وكذلك الأمر في العتاب والأخلاق وأمور الفقه كافة، وهذا يختلف عن أسلوب السور المكية القصار التي شملت مواضيعها الترهيب والترغيب وقضايا التوحيد، ووصف الجنة والنار، وكانت نبرة الغضب والزجر لا تتطلب النّفس الطويل، فتأتي الفاصلة بسرعة، وكأن المشهد قذيفة في إثر قذيفة، كما أنّ القصص يختلف أسلوب سردها بين السّور المكية وبين السّور المدنية، وعلى الرغم من هذا لم تتماثل الفواصل تمام التماثل غالبا، وذلك لأغراض فنية عميقة.

ومن خلال هؤلاء الأعلام نستنتج تواتر التحرّج من مسّ القرآن باصطلاح «السّجع»، لأصله اللغوي في صوت الحمام، ولعيوبه الكثيرة التي لمسوها عند الخطباء المتقعّرين، وبعض المؤلفين في العصر العباسي، وانزاحت هذه الصورة من أذهانهم مع تقدم الزمن، لذلك رأينا السماحة في قبول مصطلح السجع، على أن سجع القرآن سجع محمود لا تكلّف فيه.


(١) ابن سنان الخفاجي، عبد الله بن محمد، سرّ الفصاحة، ص/ ٢٠٥.

<<  <   >  >>