للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

هذا اشار الجاحظ عند ما نبّه على الفرق بين المطر والغيث، والجوع والسغب «١»، لذلك يبدو واضحا أن كلمة «فعل» لا تناسب ضعف الحبلى.

لقد درج العلماء على تسفيه كلام مسيلمة، ونالوا منه بعبارات الاحتقار من غير تبيين وجه سفاهته، وتقول عائشة عبد الرحمن عن الباقلاني: «ملأ ثلاث صفحات من كلام مسيلمة وسجاح التميمية، ليقول: «ومن كان له عقل لم يشتبه عليه سخف هذا الكلام» «٢».

ويمكننا أن نردّ على كلامها ملتمسين العذر لمنهج القدامى في أنهم اعتمدوا الحكم الإجمالي بلا تفصيل اعتمادا على ظهور السّخف والضعف في كلامه، خصوصا أن عصرهم عصر نضج علم اللغة العربية، ونستند في هذا الرأي إلى الشرط الذي ذكره الباقلاني، وهو إتقان فنون العربية لفهم البلاغة القرآنية، إذ قال: «أما البليغ الذي أحاط بمذهب العربية، وغرائب الصّنعة، فإنه يعلم من نفسه عجزه عن الإتيان بمثله، ويعلم بمثل ما عرف عجزه عجز غيره» «٣».

وكان من الطبيعي ألا يلجأ مسيلمة إلى الشعر، فقد أدرك البون بينهما في الظاهر، ولعلّه أدرك الموسيقا الداخلية وأبعادها النفسية، فتجاهلها، وتجنّبها لعدم قدرته على معارضتها، فقد كان الأمر يحتاج إلى إحاطة بالغة لا يصلها بشر، وهي إحاطة ترتيب الحروف والحركات، فظلّ في معارضته ناثرا شكليا.

ولم يكتف بتقليد الفاصلة، بل عمد إلى شيء من الموازنة في بعض هذيانه، ومن أقواله ما يذكره الباقلاني: «والليل الأصحم، والذئب الأدلم، والجذع الأزلم، وما انتهكت أسيد من محروم» «٤»، فالكلمات السابقة على وزن واحد، لأن القافية على وزن «أفعل» أصحم، أدلم، أزلم، والقافية الداخلية على وزن «فعل»، وهذه الشكلانية المحضة قد أوقعت به في الغريب مثل الأدلم والأزلم، وفي سوقية اختيار الذئب ذلك الحيوان المفترس الخدّاع، وتتبدى الوعورة في


(١) انظر الجاحظ، البيان والتبيين: ١/ ٤٤.
(٢) عبد الرحمن، د. عائشة، الإعجاز البياني للقرآن، ص/ ٧٥.
(٣) الباقلاني، إعجاز القرآن، ص/ ٤٣.
(٤) الباقلاني، إعجاز القرآن، ص/ ٥٦.

<<  <   >  >>