للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المسألة الثانية: تقسيم الدين إلى أصول وفروع]

لقد ذكر سابقا أن هذا العلم يسمى: أصول الدين.

وتقسيم الدين إلى أصول وفروع، أمر مشهور وشائع في كلام أهل العلم، ولاسيما المتأخرين، وقد أشكل على كثير من طلاب العلم -ولاسيما المعتنين بكلام الأئمة المقتدين بكلام السلف- أنه ورد في كلام بعض المحققين -وأخص منهم الإمام ابن تيمية رحمه الله - اعتراض على هذا التقسيم، فقد تكلم ابن تيمية رحمه الله في المجلد التاسع عشر من مجموع الفتاوى وفي غيره، تكلم بنوع من النقد والاعتراض على هذا التقسيم، وأنه تقسيم أحدثه بعض النظَّار والمتكلمين، مع أنك إذا قرأت في كتب شيخ الإسلام، بل ومن قبله من الأئمة؛ وجدت أنهم يسمون المسائل التي نسميها نحن: العقائد الأولى، يسمون هذا النوع من المسائل من الدين: مسائل أصول الدين، وهذا شائع كثير متواتر في كلام الإمام ابن تيمية.

إننا نجد في كلام الإمام ابن تيمية التصريح بأن هذا من مسائل أصول الدين وهذا من مسائل الفروع، وقد نص الإمام ابن تيمية في غير موضع من كتبه أن هذه من مسائل الفروع وأن هذه مسائل الأصول، أما تسميته لباب الصفات والقدر وما إلى ذلك بأصول الديانة، فهذا شائع لا حصر له في كلامه.

إذاً: ما معنى الاعتراض الذي ذكره رحمه الله؟ معناه: أنه لا يعترض على الاصطلاح كاصطلاح عام، فإنه يُعلم بالبديهة الشرعية والعقلية الشائعة عند أهل العلم، المحصَّلة من دلائل الكتاب والسنة: أن مسائل الديانة ليست بدرجة واحدة، فإن منها ما لها قوة وظهور، ولها تواتر في الكتاب والسنة، ومنها ما تحصَّل بالاجتهاد، أو القياس، أو الأدلة التي قد تسمى بالأدلة المختلف فيها.

فأما تسمية مسألة إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، ومسألة الصفات، ومسألة القدر، والمسائل التي من هذا النوع، بأصول الدين، فهذه لا يعترض عليها أحد من أهل العلم، وقد سبق أن أشرنا إلى أنه حتى من خالف أهل السنة والجماعة من الطوائف، فإنهم لا يعترضون على تسمية هذه المسائل بمسائل أصول الدين، وإن كانوا يخالفون الأئمة من أهل السنة في طريقة تقرريها، لكنهم يتفقون على أن باب الصفات -مثلاً- يعد من مسائل أصول الدين، وإن كانوا يخالفون في تقريره وترتيبه.

إنما المأخذ الذي أخذه الإمام ابن تيمية، هو أن كثيراً من النظَّار والمتكلمين، أصحاب علم الكلام ومن شاركهم من الأصوليين، وأقول: من شاركهم من الأصوليين؛ لأن كثيراً ممن كتب وصنف في أصول الفقه هم من أعيان علماء الكلام، فإن من كتب أصول الفقه: المعتمد لـ أبي الحسين البصري، وهو متكلم معتزلي حنفي، وكتاب المستصفى لـ أبي حامد الغزالي، وهو رجل متكلم على طريقة أبي الحسن الأشعري، وكتاب البرهان للجويني، وهو أيضاً متكلم

إلخ، ولا يعني هذا أن كل من صنف في أصول الفقه كذلك.

المقصود: أن مأخذ ابن تيمية هو: أنهم قالوا: إن الدين ينقسم إلى أصول وفروع، وهذا قدر عام لا إشكال فيه من حيث هو، لكنهم أخطئوا من جهة الحد، أي: التعريف، فما هي المسائل التي تسمى بالأصول، وما هي المسائل التي تسمى بالفروع؟

لقد شاع في كلام هؤلاء النظَّار ومن شاركهم من الأصوليين والفقهاء المتأخرين: أن مسائل أصول الدين هي المسائل العلمية، ومسائل فروع الدين هي المسائل العملية، ومنهم من يقول: إن مسائل أصول الدين هي ما علم بالعقل والسمع -والسمع هو دليل الشرع الكتاب والسنة- ومسائل فروع الدين هي ما علم بالسمع وحده دون العقل.

فلمثل هذه الحدود والتعريفات للأصول والفروع، اعترض الإمام ابن تيمية؛ لأنه يقول في قولهم: إن مسائل الدين هي العلميات دون العمليات، يقول: هذا غلط في المقامين.

ما معنى أنه غلط في المقامين؟

يقول: إن هناك مسائل علمية ولا تعتبر من مسائل أصول الدين، وقد سبق أن أشرنا إلى مسألة رؤية الكفار لربهم، ومثلها مسألة: سماع الميت صوت الحي، وهل يعذب الميت ببكاء أهله عليه، أو لا يعذب؟ فإن هذه مسائل علمية تصورية، فإذا قلنا: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، أو قلنا: لا يعذب، هل لهذا تطبيق فعلي في أفعال المكلفين؟ الجواب: لا، ومع ذلك فقد اختلف الصحابة: هل يعذب الميت ببكاء أهله عليه، أو لا يعذب؟ على أقوال معروفة: لـ عائشة، وابن عباس، وغيرهم، واختلف الأئمة من بعد في مسألة: رؤية الكفار، واختلفوا في سماع الميت صوت الحي، فيقول ابن تيمية: إن ثمة مسائل علمية لا تعد من مسائل أصول الدين.

وبالمقابل: لما قال هؤلاء: إن المسائل العملية هي مسائل فروع الدين، قال: هذا غلط شرعي، ووجه كونه غلطاً شرعياً: أن الزكاة، والصلاة، والحج، والصوم، هي أفعال عملية، وإن كانت مرتبطة بالمقاصد القلبية، لكنها أفعال وحركات، فالحج حركة: وقوف بعرفة، وطواف بالبيت، إلى غير ذلك، وكذلك الصلاة، مع أن الحج والصلاة وأمثالها من العبادات الكبرى أو الأولى التي سماها النبي صلى الله عليه وسلم مباني للإسلام، ولا شك أنها تعد من مسائل أصول الدين.

إذاً: هذا هو مقصود ابن تيمية من الاعتراض.

كذلك لما عرَّفها قوم منهم فقالوا: الأصول: هي ما دل عليه السمع والعقل، قال ابن تيمية: إن ثمة فروعًا دل عليها السمع والعقل، أي: أن العقل يدرك كونها مناسبة؛ كالأمر بالصدقة مثلاً، أو بذل المعروف، مثل: طلاقة الوجه، وإماطة الأذى عن الطريق، ألا نقول: إن هذا الحكم مدرك بالشرع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ندب إلى إماطة الأذى عن الطريق؟ الجواب: بلى ..

ثم أليس إماطة الأذى عن الطريق مدرك بالعقل أنه حسن وأنه خير وبر ..

إلى آخره؟ الجواب: بلى، فهل معنى هذا: أنه من أصول الدين؟ الجواب: لا.

وفي المقابل: هناك مسائل لم يدل عليها العقل، وإنما قضى بها الشرع وأخبر بها، وهي تعد من مسائل أصول الدين، كنزول الرب سبحانه وتعالى، فلو لم يحدث النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الحديث، لما كان لأحدٍ من بني آدم أن يقول: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا ..

إلخ.

فهناك مسائل خبرية مبنية على خبر الله أو خبر رسوله.

إذاً: فمحصَّل هذا التقسيم: أنه إذا استعمل كمصطلح على معنىً مناسب، فهو تقسيم سائغ، وأما إذا استعمل على معنى: أن في الدين أصولاً وفروعاً على هذا الحد الكلامي، الذي يخالف مقاصد الشريعة وأحكامها، فهذا مرفوض، وكذلك إذا استعمل هذا التقسيم على أن معنى الفروع: أنها مسائل ليس لها أهمية في الإسلام، أو كما قد يسميها بعض المتأخرين المعاصرين لما يسمى بعصر النهضة: أن هناك مسائل اللب، ومسائل القشور، وأمثال هذه التعبيرات السطحية التي استعملها بعض الكتاب، فلا شك أن هذه تسميات ليست صحيحة، بل إنها مخالفة لشرع الله، فإن الدين كله له جلاله وله قدره، مهما كان قدر مسألته.

<<  <  ج: ص:  >  >>