[الفرق الثالث: في اعتبار القرائن]
الأئمة المتقدمون لسعة علمهم يعتبرون القرائن في الحكم.
فمثلاً: من فقه المتقدمين ما يتعلق باستصحاب أصل في الباب، كقولهم مثلاً: إن الأصل في العبادات التوقيف أو الحظر، وإن الأصل في المعاملات الحل.
أيضاً: استصحاب ما يتعلق بقرائن تقود إلى ترجيح حكم على آخر، مثلاً: إذا وجدوا أن هذا الدليل قد ذهب إلى مدلوله أو حكمه الأكثر من الصحابة، أو أن أبا بكر وعمر كانوا يفتون به، فربما قووا حديثاً فرداً وانتصروا له، في حين أنك إذا أخذت المسألة أخذاً -إن صح التعبير- رياضياً؛ تجد أن هناك حديثاً آخر هو أقوى من جهة التحصيل الرياضي أو التحصيل العلمي المجرد بمسائل الإسناد والرواية، وربما كان أصرح منه دلالة؛ ومع ذلك تجد أن المتقدمين أخذوا بما هو عند التجريد أقل دلالة.
لماذا؟ لأنه وافق عمل الصحابة، والثاني خالف فتوى الصحابة.
أضرب لذلك مثلاً: مسألة الطلاق الثلاث: تجد أن الأئمة الأربعة بل والجمهور، وكما قال ابن رجب -وإن كان قد بالغ-: اعلم أنه لم يصح عن أحد من الصحابة ولا التابعين ولا الأئمة المتبوعين أنه جعل الطلاق الثلاث واحدة.
فإن شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة يقولون: إنه قول طائفة من السلف.
المقصود: أنه بالقطع أن قول الجماهير من المتقدمين أن طلاق الثلاث ثلاث، مع أن مسلماً روى عن ابن عباس من رواية طاوس ما تقدم: (كان طلاق الثلاث على عهد رسول الله، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس استعجلوا في أمر كان لهم فيها أناة، فلو أمضيناه عليهم)، فهنا الجمهور لم يعملوا برواية طاوس عن ابن عباس.
فهل هناك نص صريح من القرآن أو السنة أن طلاق الثلاث ثلاث؟ أو هل هناك نصح صريح على المعتاد بالتصريح عند المتأخرين؟ لا.
ومع ذلك تجد أن الجماهير درجوا على هذا، ومن المتأخرين من قال: إنهم قلدوا عمر، وهذا ليس بالمحكم؛ لأن عمر لو صحت الرواية لكان فعله من باب التعزير وليس من باب الاستقرار الحكمي، ولا يمكن أن يقلدوا عمر في تعزيره ويدعوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم الماضية الصالحة لكل زمان ومكان.
في حين أن مسألةً أخرى من رواية ابن عباس، كما روى أبو داود وغيره عنه أنه قال في الحج: (من ترك نسكاً فليهرق دماً)، تجد أن الأئمة الأربعة والعامة من أهل العلم درجوا على أن من ترك واجباً في الحج فعليه دم ..
وهل هناك نص من الكتاب والسنة أن ترك الواجب فيه دم؟ الجواب: ليس هناك نص صريح، لكنهم اعتبروا قول ابن عباس، وصار الإمام أحمد وغيره إذا سئل عن هذه المسألة أجاب بقول ابن عباس، فلماذا تواردوا على قول ابن عباس؟ لأن هدي الصحابة وقرائن الشريعة قضت به، ولذلك ذكر ابن تيمية في منهاج السنة النبوية أن قواعد الشريعة قضت بما قاله ابن عباس، قال: فإن كل واجب فعلي في الشريعة في أفعال العبادات كالصلاة ونحوها لابد فيه من جبران، فكما أن الصلاة تجبر بسجود السهو، فإن الجبران في مسائل الحج هي الدماء.
هذا نوع من اعتبار ما يسمى بفقه القرائن، ولذلك ربما تعجب متعجب من المتأخرين أو بعض طلبة العلم وقال: كيف ذهب الأئمة الأربعة أو الجمهور من المتقدمين إلى مسألة مع أننا لا نجد فيها دليلاً؟
الحقيقة أن فيها دليلاً لكنه ليس نصاً، وربما تعجب من تعجب فقال: كيف ترك الأئمة المتقدمون أو جمهورهم هذا النص الذي صح بظاهر إسناده كحديث طاوس عن ابن عباس؟ قلنا: هذا من باب اعتبار الفقه بالقرائن.