[المسألة الثالثة: السنة والبدعة]
إذا كانت المسألة من مسائل أصول الدين فإن ما يقابلها يسمى: بدعة، والابتداع لا شك أنه مذموم، وذمه ثابت بالنص والإجماع، فإن الله سبحانه وتعالى قد عاب على من شرَّع فقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:٢١] ومثله قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:٢٧].
وقد كذلك ثبت ذم النبي صلى الله عليه وسلم للبدع كما تواتر عنه، فقد جاء في حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد المنبر قال في خطبه: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، فذمُّه عليه الصلاة والسلام للبدع: قوليها، وفعليها، فضلاً عن عقديها أمر متفق عليه.
وقد تقدم: أن كلمة السنة كلمة فيها اشتراك، فربما ذكرت السنة بمعنى: الذي أذنت به الشريعة، فيقال: إن هذا سنة، أي: مأذون فيه شرعاً، وربما ذكرت السنة بمعنى: ما ندب إليه الشارع، فيقال: إن عيادة المريض سنة، بمعنى: أنه مندوب إليها، وربما قُصد بالسنة -كما هو الحال هنا- الأصل من الديانة.
وهنا يأتي سؤال: هل كل ما ليس سنة يكون بدعة، أم أن التعبير الصحيح: أن ما خالف السنة يكون بدعة؟
لك أن تقول: إن التعبير الأول صحيح، بشرط أن يُفسَّر تفسيراً صحيحاً، فمثلاً: إذا قُصد بالسنة ما أذنت به الشريعة، فضلاً عما ندبت إليه، فلك هنا أن تقول: إن ما ليس سنة يكون بدعة، وأما إذا قُصد بالسنة ما أمر الله به، أو أمر به الرسول، على جهة التخصيص له، والندب إليه، فهل يلزم أن يكون ما خالف هذا الأمر الخاص بدعة؟ ربما كان وسطاً وهو ما يسمى: ما أذنت به الشريعة.
ونضرب لذلك مثلاً في باب العمل:
تقول عائشة: (ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة)، والحديث في الصحيحين، فمن صلَّى كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة ركعة من الليل، فنقول: إنه أصاب السنة، بمعنى: أنه فعل ما ندب إليه؛ لأنه اقتدى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن من صلَّى من الليل ثلاثين ركعة أو أكثر من ذلك أو أقل، أي: أنه صلَّى عدداً لم يرد دليل بخصوصه، فهل أصاب سنة خاصة بهذا العدد، كما أصابها من قصد أن يصلِّي إحدى عشرة ركعة، أم أنه فعل بدعة؟
إن من يضيِّق الفهم في هذه المسائل، ربما قال: ما دام أنه لم يفعل سنة معينة، فيلزم أنه فعل بدعة؛ لأنه ليس من بابٍ إلا السنة أو البدعة، ونقول: نعم، ليس من بابٍ إلا السنة أو البدعة، ولكن بشرط أن تُفسَّر السنة تفسيراً عاماً، فإذا فسرت السنة بأنها: ما أذنت به الشريعة، فلا شك أن الأمر كذلك.
ولقائل أن يقول: إذاً ماذا نسمي عبادة من صلَّى ثلاثين ركعة؟ هل نقول: إنه فعل سنة؟ فإن قلنا: إنه فعل سنة، لزمنا الدليل على هذه السنة.
فنقول: إنه فعل أمراً جائزاً شرعاً، وربما يشكل هذا عند البعض فيقول: كيف نسمي العبادة أمراً جائزاً، والجائز هو المباح، كالأكل والشرب؟ نقول: ليس معنى ذلك أنها بحكم الأكل والشرب، وإنما المعنى: أن هذه الصورة من العبادة قد أذن بها الشارع، ووجه إذن الشارع بها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله الرجل عن صلاة الليل -كما في الصحيحين- قال: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح فليوتر)، فجعل الضابط وقتاً وليس عدداً، ومعلوم أنه لما أطلق وقال: (مثنى مثنى) فإنه لا يستطيع أحد أن يفرض رقماً في ذلك.
إذاً: هناك مسائل -وإن كانت عبادات- من إذن ومباح الشريعة، وليست من السنن التي يقصد إليها، ولكنها مع ذلك ليست من البدع؛ وقد رخص بعض أهل العلم في مسائل قد يحتاج فيها إلى تأمل أكثر، فمثلاً: عندما سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن التسبيح بالسبحة -ومن المعلوم أنه لم يُنقل عن رسول الله عليه الصلاة والسلام في ذلك شيء- إلا أن ابن تيمية قال: (إن التسبيح بها حسن -أي: جائز- بشرط: ألا يكون ذلك من باب المباهاة والرياء، وبشرط: ألا تتخذ اتخاذاً عاماً، ويهجر التسبيح بالأصابع).
فهذا النوع من المسائل لا بد له من فقه، فإنه قد يشكل على المسلم: أهي من باب السنة المأذون بها، أم من باب البدعة؟
فمثلاً: لو صلى أحد قبل الجمعة ست ركعات، فهل هناك دليل على هذا العدد؟ وأيضاً صيام العشر من ذي الحجة لمن أراد أن يتعبد لله تعبداً عاماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام.
يعني أيام العشر)، كما في حديث ابن عباس في صحيح البخاري، ومسند الإمام أحمد، فمن قصد الصيام فيها على أنه نوع من العبادة تناسبه فلا ينكر عليه.
لكن من ظن أن الصيام عبادة مختصة مشروعة في هذه العشر من بين سائر العبادات، كما ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى صيام العاشر من المحرم، فيقال له: هذا غير صحيح؛ لأن العاشر من المحرم مسنون من جهة الندب إليه، أما صيام العشر من ذي الحجة فهو مما سوغته الشريعة بالأدلة الإجمالية.
وقد يقول البعض: ربما اعتقد بعض العوام أنها سنة خاصة مندوب إليها، فنقول: هذا الاعتقاد يُعدَّل، لكن لا يلزم من ذلك أن يحرَّم على الناس الصيام، أو أن يقال: إن الصيام في عشر ذي الحجة من البدع، فهو ليس من البدع، وأما القول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، فهذه مسألة أخرى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ندب إلى العمل في هذه الأيام، ومعلوم أن سنته العامة تثبت بقوله، وتثبت بفعله، وتثبت بإقراره.
إذاً: هذا التقسيم لا بد أن يكون على جهة من المراعاة.