[الفرق الرابع: في مفهوم الترجيح]
مفهوم الترجيح عند المتأخرين، ولاسيما أصحاب المذاهب الأربعة -وقيل الخمسة- هو نوع من الانتصار، وهو نوع من أن قولهم يكون صحيحاً، وأن قول من خالفهم يكون غلطاً؛ ولذلك تجد أنهم يقولون: الرد على دليل المخالف، أو الجواب عن دليل المخالف.
وهذا -مع الأسف- انتظم في الأكاديميات العلمية الآن، فإذا ذكرت أقوال المذاهب الأربعة فقلت: إن الشافعية على قول، والمالكية على قول، والأحناف والحنابلة على قول، ثم رجحت قول الشافعية مثلاً، يلزمك أن تجيب عن كل أدلة الحنابلة والحنفية والمالكية! ولذلك ربما عبر بعض طلبة العلم أحياناً بقوله: والراجح كذا، وأما القول الآخر فلا دليل عليه.
إنه إذا انضبط قول من أقوال المجتهدين الأوائل، وليس هذا القول شاذًا؛ لا يمكن أن يكون ليس عليه دليل، وليس معنى هذا أن هذا القول عليه دليل وذاك القول عليه دليل والشريعة متعارضة ..
لكم المقصود أنه دليل يقبل الاستدلال به، أما أنه دليل يصح أو لا يصح فهذه مسألة أخرى ..
إذاً: القول الذي يجوز لك أن تقول: إنه لا دليل عليه.
هو ما كان بدعة، كقولك: قول المعتزلة في صاحب الكبيرة قول لا دليل عليه، ومثله إذا كان قولاً فقهياً شاذاً فإنه يسعك أن تقول: وهذا القول الذي خالف العامة من أهل العلم قول لا دليل عليه.
أما أن تأتي بالترجيح -كما يصنع كثير من المتأخرين- فيرجح مذهباً من المذاهب الأربعة، أو قولاً لغير المذاهب الأربعة، ثم يقول: والقول الآخر لا دليل عليه.
مع أن القول الآخر ربما عليه جمهور من الأئمة المتقدمين، فهذا نوع من الحمق الفقهي! إذ لا يمكن أن يذهب الجمهور من المتقدمين إلى مذهب ثم يقال: وهذا القول ليس عليه دليل.
أما المتقدمون فإنهم يفهمون الترجيح على أنه نوع من المؤانسة أو الاستظهار في التقديم لقول على آخر؛ ولذلك لم يظهر عندهم الإنكار الشديد في جمهور ما اختلفوا فيه؛ إلا أن يكون المخالف خالف نصاً وسنةً، فهنا ينكرون عليه، كما هو معروف في شأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم؛ فقد كانوا يدركون مسألة الخلاف على هذا الوجه.
إذاً: فرق ما بين المتقدمين والمتأخرين في مفهوم الترجيح: أن الترجيح عند المتأخرين نوع من العزم اللازم الذي معناه: تصحيح القول المرجَّح وإبطال أو إسقاط أو تفريغ غيره من الدليل، أما عند المتقدمين فما كان شأنهم على هذا إلا في مسائل خاصة قد ظهرت سنتها وبان دليلها بياناً واضحاً.