للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المسألة السادسة: مراتب الخلاف]

كثيراً ما يقال: إن الفقه طويل.

وكثيراً ما يقال: إن التتبع والدراسة لآحاد مسائل الفقه يطول، وهذا كلام صحيح؛ ولكن قد نستعمل أحياناً طرقاً ونظن أنها هي الطرق الصحيحة الوحيدة، ولك أن تقول: إنها طرق صحيحة، لكن قد تكون طرقاً مثالية، وقد تكون أحياناً ليست مثالية بل افتراضية في دراسة مسائل الفقه، وهي: أن تتبع كل مسألة من مسائل الفقه بالدراسة والتدقيق والتحقيق والترجيح

إلى النهاية، هذا افتراض،، إن لم يكن على أقل درجاته أنه مثالثًا، بل ربما كان من باب الافتراضات، وليس من باب المثاليات الممكنة.

وفي ظني أن مسائل الفقه -من باب التقرير للتعامل مع الفقه والتعامل مع الخلاف الفقهي- يمكن أن تصل إلى خمسة أنواع:

النوع الأول: مسائل أجمع عليها الفقهاء:

وهذه لا ينبغي الإكثار والتردد في التشكيك في شأنها أو في أدلتها؛ لكونها محسومة بنص وإجماع، وهذه منتهية بالنسبة لطالب العلم.

النوع الثاني: المسائل التي فيها ما يقارب الإجماع:

وهي ما يعبر عنها الفقهاء -كـ ابن قدامة وغيره- بقولهم: لا نعلم فيها خلافاً.

وربما قال بعض المتقدمين: أدركنا الفقهاء من أهل العلم يقولون بها.

كما يقوله مالك، وإن كان في الغالب يقصد المدنيين أو ربما الحجازيين.

ولكن يوجد في كلام الترمذي أحياناً ما يشابه الإجماع وليس إجماعاً، بمعنى: أنه يُعرف أن ثمة خلافاً، ولكن هذا الخلاف أشبه ما يكون بالخلاف الشاذ، أو الخلاف الفرد، مثل تفرد القاسم، أو عطاء، أو الحسن البصري عن جمهور أئمة التابعين بقول ما، ومع ذلك يقول بعضهم: لا نعلم فيه خلافاً ..

ونحو ذلك، وتجد أن ثمة استطراداً في هذا النوع من المسائل، وليس بالضرورة أن هذه هي القاعدة اللازمة، لكن الأصل فيه: أن الصواب يكون مع العامة من أهل العلم.

وكقاعدة عامة: أن ما كان الخلاف فيه شاذاً، فإنه في الجملة لا يمكن أن يكون الصواب مع من شذ عن عامة العلماء.

إذاً: هذه مسائل -إن صح التعبير- قد كفيت شرها.

النوع الثالث: ما فيه خلاف لا نسميه شاذاً، وإنما نسميه خلافاً محفوظاً، ولكنه يخالف قول الجماهير:

هذه المسألة لا يجوز لأحد أن يقول: إنه يرجح فيها قول الجمهور مطلقاً؛ بل ربما أصاب الجمهور وربما أخطئوا، لكن من قرائن الترجيح: أن القول إذا ذهب إليه جمهور الأئمة المتقدمين، ولاسيما إذا اختلفت أمصارهم واتفق أصلهم؛ كـ الليث بن سعد في مصر، والأوزاعي في الشام، والثوري في العراق، ومالك في المدينة والحجاز -هؤلاء الأربعة يسمون أئمة الدنيا في زمانهم- فإذا وجدت أن جمهور المتقدمين مع اختلاف أمصارهم ذهبوا إلى مذهب؛ ففي الغالب وفي الجملة أن هذا المذهب يكون هو الصحيح، وقد نص ابن تيمية على هذا وقال: تأملت مسائل الشريعة فظهر أن ما ذهب إليه الجمهور من المتقدمين، ولاسيما إذا اختلف مصرهم؛ ففي الجملة هو الصحيح ..

قال: وهذا معلوم بالعقل والشرع، فإنه يتعذر -ولاسيما إذا قيدت مسألة اختلاف المصر- أن يفرض فارض ويقول: لعل الحديث لم يبلغ المدنيين، فأنت تقول: هؤلاء مدنيون وحجازيون وعراقيون وشاميون.

بل نص على ذلك الكثير.

وممن أشار إلى ذلك -ولا أجزم أنه نص عليه على التقضية به- الإمام الشافعي، فإنه قدم اختيارات له في الرسالة، وعلل تقديمه لهذا القول بأنه عليه الأكثر.

وتجد أن الإمام الترمذي في سننه ربما قدم بعض الأحكام، وأشار إلى أن هذا هو الذي عليه الأكثر من أهل العلم.

فالاعتبار برأي الأكثر لا نقول: إنه لازم، وإنما نقول: هو أحد قرائن الترجيح القوية، بمعنى: أنك لا تخرج عنه إلا وأنت متدين، وإذا خرجت عنه متديناً فإنك لا تذم هذا القول.

النوع الرابع: ما كان من الخلاف قد شاع واشتهر:

ولا تستطيع أن تقول: إن الجماهير من المتقدمين من الفقهاء والمحدثين لهم قول، إنما لك أن تقول: إن الخلاف هنا خلاف شائع مشروع؛ فإنك تجد أن المدنيين أو الحجازيين اختلفوا، والعراقيين اختلفوا، والشاميين اختلفوا، بل الصحابة اختلفوا، فما كان من هذا النوع، وقد اختلف فيه الفقهاء اختلافاً بيناً، وشاع خلافهم في الأمصار، ففي الجملة -فيما يظهر لي والله تعالى أعلم- أن هذا النوع من المسائل لا شك أنك بحاجة إلى ترجيح فيه، حتى العامي بحاجة إلى ترجيح ليعمل بأحد القولين، لكن المقصود: أنك إن رجحت هذا القول أو هذا القول فلا تبالغ في الانتصار.

مثال: تحية المسجد في وقت النهي ..

هذه مسألة قد شاع الخلاف فيها شيوعاً قوياً، وكان ابن تيمية -وهو من فضلاء المتأخرين المحققين- قد نص على أنه كان متوقفاً في شأنها، وبعض الأئمة المتأخرين كـ الشوكاني قال: أفضِّل أن الإنسان لا يقصد دخول المسجد في وقت النهي حتى لا يقع في الإشكال.

إذاً: ما كان فيه الخلاف مشهوراً فرجح فيه ترجيحاً هادئاً بارداً ولا تبالغ في المسألة.

وفي ظني أن هذا النوع من الخلاف ينبغي إشاعته بين المسلمين، إلا إذا اقتضت مصلحة شرعية في مصر من الأمصار أن لا يشاع، أما إذا كانت المصلحة لا تعارض ذلك، فهذا النوع من الخلاف ينبغي أن يكون مألوفاً شائعاً، وقد كان الخلاف مألوفاً شائعاً زمن المتقدمين من الصحابة والتابعين، ولم يكن التعصب والتقليد لآحاد الرجال معروفاً بينهم.

النوع الخامس: فروعات الفقهاء المتأخرين، المحتملات في المذهب أوجه الأصحاب:

فعلى طالب العلم أن لا يجهد نفسه فيها، ولاسيما في أول طريقه فيها حتى يستقر فقهه للخلاف؛ لأنها مسائل كثيرة ولا تتناهى.

وهنا في هذه المسألة كلمة أخيرة: أن من أهم الفقه -فيما أظن ويظهر- الذي يحصله طالب العلم: أن يفقه الخلاف، فمن الجيد أن طالب العلم خلال سنتين أو ثلاث أو أربع، يدرس في مذهب متن فقهي كالزاد وغيره، لكن المهم أن يعرف الخلاف، وليس فقط أن يعرف متناً فقهياً كتبه متأخر في القرن الحادي عشر أو الثاني عشر، على رأي واحد، داخل مذهب واحد، فهو قد كفي الربط، وما إلى ذلك من التطويرات، لكن المعرفة بالخلاف جزء كبير من الفقه، وقد كان بعض المتقدمين يقول: من لم يعرف الخلاف لا يحل له أن يفتي.

<<  <  ج: ص:  >  >>