[المسألة السادسة: الفرق بين خطأ المتأول وبين المعاند]
هناك فرق في الحكم بين مقالة تصدر بالتأويل، ومقالة تصدر على جهة العناد، فمثلاً: لقد كفَّر الله سبحانه وتعالى من قال عن كتابه وعن كلامه: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:٢٥] وربما نجد أن بعض أئمة السنة، في ردهم على القائلين بخلق القرآن، يقولون: ومن الدليل على أنه كلام الله حروفه ومعانيه: أن الله قد ذمَّ من كفر به فقال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:٢٥] فهل يستدل الأئمة بهذا التقرير: أن القرآن كلام الله، وأنه ليس مخلوقاً، أم يستدلون به ليقولوا: إن من قال: إن القرآن مخلوق، فحكمه عند الله بالضرورة يكون كهذا القائل؟
لا شك أن المراد هو الأول: أن هذا من باب الدفع للبدعة، التي قال أصحابها: إن القرآن مخلوق؛ لأنه إن كان مخلوقاً، لزم أن يكون قول بشر، أو أن يكون مخلوقاً بعينه -كما قال بعضهم: إنه حكاية عن كلام الله، أو غير ذلك- لكن هذا الكافر الذي ذكره الله في القرآن لما قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:٢٥] قالها على جهة الجحد لتصديق هذا القرآن.
إذاً: القول بأن القرآن مخلوق، مقالة كفرية في ذاتها، لكن من قالها على قدر من التأويل، فإذا ما علم قيام الحجة عليه، وأنه خرج عن هذا التأويل الذي منع القول بكفره، إلى العلم بقيام الحجة عليه، فإنه يحكم عليه بهذا الموجب، وهذا لم يقع في تطبيقات الأئمة مع القائلين بمثل هذه المقالات إلا في حالات يسيرة، مثل ما نقل: أن الإمام أحمد حكم بذلك على ابن أبي دؤاد، لكن كم كان المعتزلة إذ ذاك؟ وكم كان علماء الجهمية؟ هذا إذا استقام الإسناد إلى مسألة ابن أبي دؤاد.
وهنا يرد سؤال آخر: لماذا حكم الإمام أحمد بالكفر على ابن أبي دؤاد، ولم يحكم على المعتصم، مع أن المعتصم العباسي كان يقول بخلق القرآن، وأجبر العلماء بالسيف والسنان على القول بخلق القرآن؟ بل كان الإمام أحمد يدعو له، ويستغفر له، ويصلي خلفه؟ ولذلك قال ابن تيمية: (بل إن الإمام أحمد صلى خلف بعض من يقول بهذه المقالات).
وهو يقصد بذلك المعتصم، يقول: (صلَّى خلفه ودعا له واستغفر له، ولو كان كافراً عنده لما فعل ذلك).
ومثل ذلك أيضاً: مسألة العلو، فإن إنكار العلو كفر؛ لأنه تكذيب للقرآن، فمن أنكر علو الله على جهة الرد والتكذيب، فهو كافر، وذلك كما أنكره فرعون فيما ذكره الله في شأنه، لكن من تكلَّم بهذه المسألة على نوع من الشبه التي عرضت له، فهل يتغير حكمه، أو لا يتغير؟ المقالة حكمها واحد: أنها كفر، لكن القائل بها، لما دخلت عليه هذه الشبه والتأويلات، وظن أن هذا هو تحقيق الحق، فلا يلزم أن يكون كافراً، وقد ناظر ابن تيمية قوماً من المتكلمين الذين ينفون علو الله تعالى، حتى انقطعوا معه في المناظرة، حتى قال لهم بحضرة السلطان: (أنا أمهل من يخالفني في هذه المسألة ونحوها ثلاث سنين).
من باب ثقته بما قال، فمع مناظرته لهم، ومع انقطاعهم، خرج بنتيجة فقال لهم: (أنا لو أقول بقولكم كفرت، لكنكم لستم كفاراً عندي).
فهذا الفقه في طريقة الأئمة المرضيين رحمهم الله؛ كالإمام أحمد، ونحوه من المتقدمين، وكذلك من بعدهم من الأئمة؛ كـ ابن تيمية ونحوه، لا بد أن يكون نموذجاً مبصراً لطالب العلم، فيقول الحقائق الشرعية بغير نقص، ولكن لا يعتدي على الخلق أيضاً.
إذاً: هذا التفريق لا بد أن يكون بيِّناً.