[منهجية التسلسل في طلب العلم]
قد يتبادر إلى ذهن البعض أن يُذكر ما هو مقترح في دراسة الفقه من الكتب، وهذا وإن كان داخلاً في هذا العنوان إلا أنه ليس هو المعبر عنه، وأهم منه هو ما يتعلق بقواعد المنهج في هذا الباب، وأما أن يقال: يقرأ من الكتب كذا وكذا ..
فهذا قد لا يكون شأناً منضبطاً؛ فإنه يختلف باختلاف بيئات الناس وقدراتهم ..
ثم إن منه قدراً مشتركاً قد يكون من الشائع بين طلبة العلم الاعتبار له، فإذا ذكر ما يتعلق بالاعتقاد -مثلاً- تجد أن ثمة كتباً قد شاع بين طلبة العلم أنها مما يدرس ويحصل ويقصد إلى شرحه والعلم به وما إلى ذلك، كالواسطية لـ ابن تيمية، والطحاوية وما عليها من الشرح لـ ابن أبي العز الحنفي، وبعض كتب السنة المتقدمة التي صنفها المصنفون على طريقة الإسناد والرواية، وحكوا فيها جمل الأئمة المتقدمين؛ كالسنة للخلال، والإبانة لـ ابن بطة، والشريعة للآجري
فضلاً عما في كتب المحدثين؛ ككتاب الإيمان وكتاب التوحيد للإمام البخاري، وكتاب الإيمان للإمام مسلم
وإذا أردت أن تذكر ذكراً عاماً فلك أن تقول: إن ما في كتب ابن تيمية من الرسائل والمصنفات في مسائل الاعتقاد، أو الرد على المخالفين، لا ينبغي لطالب العلم أن يبالغ في الوقوف عنده؛ لأن جملة منه شائعة معروفة، وجملة منه يختلف فيها الاختيار والنظر والتقرير، بحسب ما يقع للناس، وما يقع في بيئاتهم، وما يقع في أبواب العلم عندهم ..
وهذا القدر ليس هو الإشكال، وأنا أرى أنه لا ينبغي أن يقع إشكال لطلبة العلم اليوم في مثل هذه المرحلة من تاريخ المسلمين، فيما يقرءونه من العلم ..
لم؟ لأن علماء المسلمين قد صنفوا في سائر علوم الشريعة وأبوابها ما يقارب اثني عشر قرناً، وهذه القرون تجد أنها مليئة بالتصانيف في سائر فنون الشريعة؛ من التفسير أو ما يتعلق بعلوم القرآن، والحديث وعلومه، والفقه وأصوله، والاعتقاد وما يتعلق بالفرق والرد على المخالفين والمقالات
إلى غير ذلك، فإن كل فن من هذه الفنون وغيرها فيه كتب كثيرة، وفي نفس الوقت لك أن تقول: إن فيه كتباً محققة.
أي: صنفها أئمة محققون في هذا الشأن، عارفون به، وأحكموا في تصنيفها، فاجتمع فيها شرف الكتاب من جهة أن المصنف اعتنى به، ومن جهة أن المصنف له في هذا التصنيف تمام الفهم.
ولذلك صار من الشائع بين أهل العلم -ولا سيما في الطبقة المتأخرة- أنه إذا ذكر ما يتعلق بعلوم الحديث ذكروا مقدمة ابن الصلاح، وتجد أن هذه المقدمة صارت شائعةً معروفةً يتداولها طلبة العلم ويقرءونها، وربما قرءوا قبلها نزهة النظر للحافظ ابن حجر، ثم ألحقوها بما كتبه عليها ابن حجر من النكت، أو شرح ألفية العراقي للسخاوي ..
وإذا رجعت إلى التفسير تجد أنه كتبت فيه كتب كثيرة، وربما كانت هذه الكتب ليست محققة ..
بل فيها من الضلالة والخروج عن تفسير القرآن خروجاً كثيراً، كبعض الكتب التي ألفها من لم يكتبوا آثار أئمة السنة والجماعة، لكن في المقابل فإنه يوجد في علم التفسير من الكتب المحققة المعروفة، فإن هذا الباب قد كتب على أنحاء، وهو ما يسمى بالتفسير بالمأثور، وهذا فيه كتب، ولكن قد شاع بين أهل العلم أن ما كتبه ابن جرير الطبري هو العمدة في ما يسمى بالتفسير المأثور.
فإذا قال طالب العلم: ماذا نقرأ في التفسير؟
ففي ظني أن هذا السؤال لا ينبغي أن يكون سؤالًا صعب الجواب؛ لأن هذا من البدهيات؛ فلو قرأ طالب العلم فيما يتعلق بالتفسير بالمأثور، وآثار الصحابة ومن بعدهم في كلمات القرآن وتفسيرها ومعانيها، لو قرأ تفسير ابن جرير لكفاه في الجملة، ولا نقول: إنه قد حصل تحصيلاً نهائياً، فهذا يتعذر، إنما نقول: إنه أجمع كتاب في هذا الباب وأصدقه من جهة إمامة مصنفه، وتقدم عصره.
وإذا نظرت في ما يسمى بالتفسير الذي كتب على تقدير الأحكام وجدت أن فيه كتباً، لكن ما كتبه القرطبي أجمع كتاب في هذا الباب، وكأنه أشهر كتاب وصل إلى الناس فيما يتعلق بأحكام القرآن.
وإذا ذكرت كتب الفقهاء تجد أن ثمة كتباً تعتبر إماماً في هذا العلم، فإذا ذكرت كتب الفقه المقارن اشتهر عند أهل العلم أن كتاب المغني للموفق محمد بن قدامة المقدسي على مختصر أبي القاسم الخرقي، من أشهر وأجود كتب الفقه المقارن، وأن ما كتبه النووي -وإن كان لم يكمله- فيما سماه بالمجموع شرح المهذب، هو من جوامع كتب الفقه، بل وما كتبه أبو محمد بن حزم في كتابه المحلى.
وإذا ذكرت ما يتعلق بتفسير أو شرح حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وما صنف فيه، فإن من أتم هذه الكتب وأجودها -إن لم يكن هو الأجود على الإطلاق- ما كتبه الحافظ أبو عمر بن عبد البر في الاستذكار والتمهيد على موطأ الإمام مالك، وما ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري على صحيح البخاري، أو ما في فتح الباري لـ ابن رجب وإن كان لم يكمله.
وإذا نظرت فيما يتعلق بما صنفه المتأخرون من أحاديث الأحكام؛ كبلوغ المرام، أو المحرر، أو المنتقى؛ لوجدت من الشروح والتعليقات عليها ما هو معروف، وتجد أن نيل الأوطار للشوكاني يعد من جوامع التعليقات على كتاب يعد من جوامع كتب الأحكام المتأخرة، وهو المنتقى للمجد ابن تيمية رحمه الله.
المقصود من هذه المقدمة: أن ما يتردد كثيراً في مجالس طلبة العلم: ماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ وبم نبدأ؟ وهل نقدم شرح الطحاوية على لوامع الأنوار، أم الواسطية قبل ذلك؟ ..
هذه القضايا من عقل العاقل وفقه الفاقه أن يدرك أنه ليس فيها حكم صارم أو لازم، وكأن هذا هو سلم العلم، فإذا انحاز الطالب أو القارئ عنه شيئاً فقد زل عن سبيل العلماء أو عن الطريق الصحيح للتحصيل؛ لأن هذه في الجملة مسائل يغلب عليها الاجتهاد، وفي الغالب أن حكم الإنسان على نفسه له قدر في التأثير على ذلك، بمعنى أن الناس يختلفون في قدرتهم على التحصيل والاستيعاب والإدراك، فينبغي أن يختار بالدرجة الأولى شيئاً يناسب طاقته وإدراكه وما آتاه الله سبحانه وتعالى.
وفيما يتعلق بالمنهجية في دراسة الفقه فإن هذا موضوع طويل متشعب، وليس المقصود أن نصل فيه إلى النهاية، أو إلى تحقيقات متينة، وإنما المقصود هنا: أن نقف جملةً من الوقفات والقراءات في هذا المفهوم، وسنجملها في عشر مسائل، على ما سيأتي ..