[المسألة السابعة: ثلاثة أصول في الحكم على خطأ المعين]
هناك ثلاثة أصول ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مسألة الحكم.
- الأصل الأول: قال: (إن المقالة قد تكون كفراً، ولا يلزم أن يكون قائلها كافراً)، وقد حكى الإجماع عن السلف على هذه القاعدة، وإذا قلنا: إن المقالة تكون كفراً، ولا يلزم أن يكون قائلها كافراً، فهل معنى ذلك: أنه لا يمكن أن يكون كافراً؟ قطعاً لا، إنما المقصود: أنه ليس هناك تلازم ولا اطراد بين القول وحكم قائله.
- الأصل الثاني: قال: (أن يُعلم أن الواحد من أهل الصلاة)، أي: ممن يقيم الصلاة، والشعائر الظاهرة، فيصوم رمضان، ويحافظ على الصلوات الخمس، ويحج البيت، ونحو ذلك، قال: (أن يُعلم أن الواحد من أهل الصلاة لا يكون كافراً في نفس الأمر -أي: في حكم الله سبحانه وتعالى - إلا إذا كان ما يظهره من الصلاة ونحوها على جهة النفاق).
وقد شرح هذا الأصل في أكثر من موضع من كتبه، ومن أقربها وأيسرها: شرحه لحديث الافتراق، ولعله في المجلد الثالث من فتاويه.
قال: (لأن الناس لما بعث النبي كانوا: إما مشركين يعبدون الأصنام، أو مسلمين متبعين للنبي، ولما هاجر إلى المدينة ظهر صنف ثالث، وهم المنافقون، فالناس: إما منافق، وإما كافر، وإما مؤمن، والمؤمن أحد درجات ثلاث: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات).
- الأصل الثالث: ذكره الإمام ابن تيمية في المجلد السابع من الفتاوى وفي درء التعارض وغيره، قال: (إن كل من أراد الحق، واجتهد في طلبه من جهة الرسول، فأخطأه، فإن خطأه مغفور له).
إذاً: لا بد من تحقيق إرادة الحق، وهذا الشرط يخرج به الذين يكون مقصودهم الانتصار لمذاهبهم، فإن هؤلاء لم يحققوا إرادة الحق؛ بل إنه قد خالط هذه الإرادة وشابها نوع من النقص، وربما نوع من الشرك، وهو التعصب لهذه المذاهب الباطلة، أما من سلمت إرادته للحق، (واجتهد في طلبه)، أي: بذل وسعه في تتبع الكتاب الكريم، ودلائل السنة، وآثار الصحابة، (من جهة الرسول)، أي: من جهة الكتاب والسنة وما جاء به الرسول، (فأخطأه، فإن خطأه مغفور له).
فلا بد من هذه الأصول أو الشروط الثلاثة:
الشرط الأول: (أن كل من أراد الحق).
الشرط الثاني: (واجتهد في طلبه).
الشرط الثالث: (من جهة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: (فأخطأه فإن خطأه مغفور له).
ولما تكلم عن أهل البدع الذين ذمهم السلف قال: (وأما من ذمهم السلف من الطوائف فهم في الجملة مقصرون في باب الإرادة، مقصرون في باب الاجتهاد، فإن كثيراً منهم يكون من مقصوده الانتصار لمذهبه)، قال: (والمقصرون في مقام الاجتهاد لعدم علمهم بالسنة).
ولذلك فإن الطوائف الخارجة عن السنة والجماعة ليسوا أهل علم بمفصل سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إذاً: من ذمهم السلف والأئمة من طوائف المخالفين فإنهم في الجملة مقصرون في هذه المقامات الثلاثة.
فإن عندهم تقصيرًا ونقصًا في باب الإرادة، لكثرة ما يعنون به من التعصب لأئمتهم، وطوائفهم، وشيوخهم، والانتصار لهم.
وأما في باب الاجتهاد، فإنهم مقصرون في هذا الباب من جهة قلة عنايتهم بآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وآثار أصحابه.
وهذا أمر بيِّن، فإن علماء الكلام كأئمة المعتزلة الأوائل، ونحوهم، ليسوا من أهل الرواية، بل إن الذين عرفوا بأنهم أئمة الحديث وأئمة الرواية هم علماء أهل السنة والجماعة.
قال: (وأما المقام الثالث- وهو قوله: من جهة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم - فإن هذه الطوائف مقصرون في هذا المقام من جهة ما استعملوه من الأصول الكلامية ونحوها، التي حصلوا بها، أو بكثير من مقاماتها، ما يعتبرونه هو مقام أصول الديانة، وربما قدَّموه على القرآن، وزعموا أن هذا من باب تعارض العقل والنقل).
إذاً: هذا الأصل لا يقود إلى تعطيل الحق، ولا يقود إلى تعطيل الذم للمخالفين، وإنما هو أصل من أصول العدل والشريعة التي يوزن بها المخالف، دون أن تنقص الحقائق الشرعية.
وقد أشار الإمام ابن تيمية إلى خطورة هذا النقص الذي يعرض لهؤلاء في هذه المقامات الثلاثة، فذكر أنه قد يصل إلى حد الكفر، وقد يكون من باب الفسق، وقد يكون من باب المعصية، قال: (وهذا النقص قد يكون كفراً، وقد يكون فسقاً، وقد يكون معصية، بحسب قدر المقالة وحال قائلها).