قد يكون الدليل معيناً، ودرجة الحجية ثابتة، لكنهم يختلفون في ثبوت الدليل، وهذا محله في الغالب النصوص النبوية، ولك أن تقول: إن محله في سائر الموارد هو الآثار؛ سواء كانت آثار النبي صلى الله عليه وسلم أو آثار الصحابة؛ لأنه من المعلوم أن القرآن قد انتهى أمره بحفظ الله سبحانه وتعالى له، فلا جدل في هذا المقام، أي: من حيث ثبوت القرآن، وإنما الخلاف في ثبوت الأحاديث، أو ثبوت بعض آثار الصحابة، أو ثبوت الإجماع، وهذا الاختلاف في ثبوت الدليل ينتج عنه أيضاً كثير من الخلاف.
وأكثر الأسباب التي ذكرها ابن تيمية هنا تتعلق بهذا المعتبر وهو: ثبوت الدليل.
ومن المعلوم أن المحدثين في باب الثبوت أكثر امتيازاً؛ لأنهم أهل علم بالسنن والآثار، بخلاف الفقهاء من أهل الكوفة، فإنهم لم يكونوا على درجة كبيرة من العلم بالنصوص والآثار، وقد اصطبغ هذا عند كثير من الفقهاء المتأخرين، حتى عند متأخري فقهاء الحنابلة والمالكية، مع أن الإمام أحمد والإمام مالكاً رحمهم الله كانوا من كبار المحدثين، هذا فضلاً عن الشافعية والحنفية، فقد قل العلم بالآثار، أي: من حيث الصحة والضعف، وأحياناً من حيث العلم، أي: عدم العلم ببعض الآثار والسنن، ومعلوم أن أبا حنيفة رضي الله عنه ورحمه كان قليل العلم بالحديث، أي: بطرق المحدثين، وليس معنى ذلك أنه لم يكن لديه علم أصلاً، فإن هذا أمر مستحيل، لكنه لم يكن واسع العلم بالحديث، ولم يكن من الحفاظ الكبار، وقد تكلم بعض المتقدمين كـ البخاري وغيره في حفظ أبي حنيفة بما هو معروف، لكنه كان فقيهاً، ومعه كثير من السنن التي أجرى فيها - مع القرآن وما معه من الأصول- فقهه المعروف.
وهنا ينبه إلى أنه من الحكمة أن ينتظم طالب العلم على فقه واحد، حتى لا تكون نتيجته الأخيرة فيها اضطراب، ولذلك نجد أن أهل الحديث انتظم فقههم، بغض النظر عن الراحج والمرجوح في هذه المرحلة.