[دليل الاستقراء]
إن فقه الدليل بمجموع هذه المدارك هو منهج المتقدمين والمحققين من المتأخرين، وهذا يبين أن دليل الشريعة مستوعب للمسائل الشرعية، وهذا هو الأصل الشرعي: أن دليل الشريعة مستوعب للمسائل مهما طرأت إلى أن تقوم الساعة، فإنه لابد أن لها حكماً في كلام الله ورسوله، وهذا يكون إذا فقه الدليل بمجموع المدارك الخمسة، واعتبر كذلك دليل الاستقراء.
ولما فات دليل الاستقراء أو كثير منه كثيراً من المتأخرين عرض لهم أحد مقامين:
المقام الأول: التجوز في إثبات التكليف بالتعليل الفقهي الذي ليس على أصل محقق محفوظ، وكأنه تعليل متكلف، مثل بعض تعليلات الفقهاء المتأخرين -ولا أقول جميع تعليلات الفقهاء المتأخرين- لكن أحياناً نجد أنهم يحرمون أو يغلقون بتعليل، وهذا التعليل ليس على أصل محقق حتى عند إمام المذهب، فإذا لم يجد ذلك الفقيه دليلاً لفظياً على حسب مصطلح الدليل اللفظي الذي ذكرناه، وليس هو من أهل فقه الاستقراء، فأحياناً يحرم أو يغلق بالتعليل.
وأنبه هنا إلى أن الإشكال ربما يتضح أكثر إذا كان هذا الفقيه يريد أن يستدل بقول إمام نقل قوله ولم ينقل دليله، فربما تكلف في الدليل له فجعل مبنى الحجة في قول الإمام تعليلاً، مع أن هذا التعليل قابل للإسقاط.
وربما احتجوا بحديث ضعيف عند الإمام نفسه، أو بحديث بين الترك عند المحدثين، فمن ينظر في هذا الحديث أو تلك العلة يقول: إن مذهب الإمام أحمد والإمام الشافعي ضعيف؛ لأنه بني على حديث ضعيف أو على علة لا تقبل الاحتجاج، مع أنه من المعلوم أنه ليس كل ما قاله أحمد ذكر له دليلاً، فإن أقواله المنقولة أكثر من الأقوال التي نص فيها على الدليل، فضلاً عما خرج عن مذهبه إذا دخلنا في مصطلح المذهب الاصطلاحي.
إذاً: هذا التجوز في إثبات التكليف بالتعليل الفقهي يعرض إما في بعض الأقوال، أو في الاستدلال لقول الإمام، وهذا حال كثير من الفقهاء المتمذهبين، وهذا المنهج ليس منهجاً حكيماً وليس صواباً.
المقام الثاني: الإسقاط للتكليف باستصحاب أصل، فإن كان في العبادات قالوا: الأصل براءة الذمة، فلا يكلف الإنسان بوجوب واستحباب، وإن كان في المعاملات قالوا: الأصل الحل، وهذه الطريقة يميل إليها بعض أصحاب الحديث المتأخرين حين لا يجدون الدليل اللفظي، وليسوا من أهل فقه الاستقراء، فيصيرون إلى الإبراء خلافاً لبعض المتمذهبين من الفقهاء، وكيف يصيرون إلى الإبراء؟ كما إن أولئك يصيرون إلى التكليف بالتعليل القاصر، فهؤلاء يصيرون إلى الإبراء باستصحاب أصل، فإن كان المورد العبادات قيل: الأصل براءة الذمة.
ومن الأمثلة التي يمثل بها في نظر البعض: قول بعضهم: إن من ترك واجباً في الحج فليس عليه شيء؛ بل يتوب ويستغفر، فإن قيل له: لماذا؟ قال: الدليل عدم الدليل، فإن قيل له: فأثر ابن عباس: (من ترك نسكاً فليهرق دماً)؟ قال: هذا قول صحابي، وهو مما يمكن أن يقال بالرأي والقياس، وربما قال بعضهم: إن الصحابة قد اختلفوا، فقد سئل عمر بن الخطاب عمن ترك المبيت في مزدلفة فقال: (يمضي)، وهذا يدل على أن الصحابة لم يتفقوا على أن الواجب فيه دم.
وأقول: إن هذه طريقة ناقصة؛ لأنه ثبت أن عمر يذهب إلى أن المبيت بمزدلفة واجب، فربما أن هذا لا يراه واجباً وغيره يراه واجباً، والخلاف ليس على الأشياء المعينة في الحج، إنما الخلاف على الأصل، فإنه من المعلوم أن الفقهاء بل والصحابة اختلفوا في تعيين الواجبات، وإنما إذا تحقق أن هذا واجب فلم ينضبط عن الصحابة أو الأئمة التصريح بأنه لا شيء عليه.
والذي أقصده بهذا المثال هنا أن قول من يقول: من ترك واجباً فلا شيء عليه؛ لأن الأصل براءة الذمة، فما دام أنه ليس هناك دليل لفظي مبين من السنة فالأصل براءة الذمة، وإذا كانت معاملات قيل: ليس هناك دليل بين هنا فالأصل الحل في المعاملات ..
وهكذا، هذا المنهج أيضاًَ ليس منهجاً حكيماً مستتماً، وكما أسلفت أنه يعرض لبعض من أراد ترك المذاهب والاختصاص بالسنن والحديث، والعناية بالسنن والحديث وجه فاضل، لكن هذه التطبيقات تتأخر عن مطابقة منهج المتقدمين.