[خلاف العلماء في حكم الخروج عن المذاهب الأربعة]
الخروج عن مذاهب الأئمة الأربعة إلى قول إمام، أو إلى قول محفوظ عن متقدمين من الأئمة بهذا القيد، فيه ثلاثة مذاهب للمتأخرين:
المذهب الأول: لزوم الخروج عن مذاهب الأئمة الأربعة إذا عرض ظاهر دليل يقتضي المخالفة، وهذا الذي عرض به ظاهر الدليل قول محفوظ أو قول ثابت عن إمام متقدم، ومن أخص من انتصر لهذا المذهب الإمام أبو محمد ابن حزم، بل إنه ربما خرج إلى ما هو أوسع من ذلك أحياناً، فإن ابن حزم يرى لزوم الخروج عن المذاهب.
وقد يقول قائل: إن ابن حزم لا يعتبر المذاهب أصلاً.
فنقول: إن هذا الكلام ليس على إطلاقه، صحيح أنه قد تند من ابن حزم بعض الحروف والكلمات عند اشتداده في مقام الاحتجاج أو الرد على بعض الفقهاء، لكن هذه الكلمات إذا ندت منه فلا يلزم أنها تمثل منهجاً مطرداً فيحاكم قوله إليها، فإنه ربما ندت منه بعض الكلمات التي قد تشير إلى مثل هذا -أعني ترك الاعتبار المطلق- وهذا ليس وجهاً معروفاً له، إنما المقصود أنه ممن يرى لزوم الخروج عن المذاهب الأربعة إذا قضى ظاهر الدليل بذلك، والقول محفوظ عن إمام متقدم، إما أن يكون حفظه عن بعض المتقدمين، كأن يخرِّج بعض المسائل على فقه الصحابة -وهذا له أمثلة عنده- فإنه قد يخالف الأئمة الأربعة ثم يقول: وهذا الذي ذكرناه هو قول أبي بكر وعمر مثلاً، أو قول ابن مسعود، أو غيرهم، فإنه كثير العناية بآثار الصحابة كما هو معروف في منهجه، وهذا في الجملة مما يحمد لـ ابن حزم -أعني العناية بآثار الصحابة- وإن كان فقهه لآثار الصحابة قد يتأخر في كثير من الموارد، فإنه ربما رأى آراءً ليست من مقتضى قولهم المعين.
المذهب الثاني: المنع، فأصحاب هذا المذهب يمنعون الخروج عن المذاهب الأربعة مطلقاً، ويرون أنه لا يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة، بل يكون مدار الأقوال على هذه المذاهب، ومن أخص من تكلم عن هذا وضبطه ومال إليه الحافظ ابن رجب في رسالة له، مع أن الحافظ ابن رجب هو من أوسع المتأخرين علماً وأكثرهم عناية بآثار السلف، وهذا بين في الجزء الموجود من شرحه لصحيح البخاري المسمى: فتح الباري على صحيح البخاري، ففيه تظهر عناية الحافظ ابن رجب بآثار السلف، ومقالات أئمة الحديث بخاصة، فهو كثير العناية كثير الفطنة كثير الضبط لمثل ذلك، ولكن له كلام في بعض رسائله أكد فيه هذا المعنى وهو: منع الخروج عن المذاهب الأربعة في القول الفقهي.
فهذان الإمامان -أعني الإمام أبا محمد ابن حزم صاحب طريقة الإلزام، والحافظ ابن رجب صاحب طريقة المنع- كلاهما من المحققين المتأخرين، وإن كان ابن رجب أجود منهجاً؛ لأنه اعتبر منهج الإمام أحمد على طريقة المحققين من أصحابه، فضلاً عن عنايته بالآثار، أما أبو محمد ابن حزم فهو وإن كان كثير العلم حسن الفقه، إلا أنه انتحل مذهب الظاهرية، ومذهب الظاهرية يتأخر في الرتبة عن مذاهب أئمة الفقهاء كالإمام أحمد والشافعي وأمثالهما.
ولكن مع ذلك فإن هذين الإمامين -أعني أبا محمد ابن حزم وابن رجب - هما من أكثر المتأخرين علماً وتحقيقاً، وإن كان هذا له طريقة وهذا له طريقة، ونجد أن أبا محمد ابن حزم واسع العلم بآثار النبي صلى الله عليه وسلم وبآثار الصحابة، وبمقالات الفقهاء، كثير العناية والأخذ بالسنة والهدي، وكذلك الحافظ ابن رجب واسع العلم بالآثار، فهما من الأئمة الكبار المتأخرين، ولـ شيخ الإسلام ابن تيمية ثناء كبير على أبي محمد ابن حزم، حتى إنه قال: إنه إذا كان في المسألة نزاع والراجح فيها مرتبط بصحة الحديث، أو بورود الحديث، فإن القول الذي يذهب إليه ابن حزم في الجملة أو في كثير من الموارد يكون هو الصواب.
وعليه نقول: إنه مع أن هذين الإمامين لكل منهما قول في هذه المسألة يخالف الآخر، فإن هذا لا يعني تأخراً في فقههما؛ بل يقال: إن طالب العلم لا ينبغي له أن يستغني عن كتب ابن حزم وكتب ابن رجب، فهي من أجود كتب المتأخرين، وإن كانت كتب ابن حزم ينبغي أن لا يبتدئ فيها، وإنما يستعمل النظر فيها بعد أن تتبين له أصول العلوم وأصول القواعد العلمية، أما كتب ابن رجب فإنها أقرب إلى التأصيل.
ومذهب ابن حزم هذا يتابعه عليه جماعة، ولا سيما بعض من جاء في القرون المتأخرة من أصحاب الحديث، فإن بعضهم يستعملون هذه الطريقة، وهذا بين في طريقة بعض شيوخ الحديث المتأخرين.
ومذهب ابن رجب يسير عليه كثير من الفقهاء، وبعض المعاصرين يميلون إليه، أو يصححونه ويرجحونه.
وأنبه إلى أن القول بالإلزام أو بالمنع هو في الحقيقة يدور على أشخاص وليس رأياً عاماً، وإلا فإن من يريد أن يؤصل الأمور ببعض أوجه التأصيل الممكنة، ربما تطرق إلى ذهنه نتيجة أن الإلزام بالخروج هو مذهب العامة من أهل العلم؛ لأنه خروج إلى الدليل، وكذلك من يمنع ربما تحصل له بطريقة في نظره أن المنع هو مذهب الجمهور من الفقهاء، وقد يذكر أن العلماء أنكروا على فلان من أهل العلم لأنه خرج عن المذاهب في مسألة معينة.
فأقول: هذا لا ينبغي التسرع فيه، فالإلزام ليس منضبطاً كمذهب للجمهور من أهل العلم، كما أن المنع ليس منضبطاً، ولا يقال: هذا هو الذي درج عليه الفقهاء، وهذا هو المعروف عندهم، حتى إنهم شذذوا من خالفه؛ فإن هذا أيضاً فيه زيادة، نعم ..
ربما يشذذون في مسائل معينة لأن هذه المسائل لها أحوال معينة عندهم، أما التنظير الذي نتكلم عنه الآن فهو كالتأصيل لهذه المسألة.
مثال ذلك: مسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد، فربما قال بعضهم: إن العلماء أنكروا على شيخ الإسلام في هذه المسألة، فنقول: الإنكار ليس بالضرورة أنه فرع عن هذا الأصل، وبعض من تكلم في هذه المسألة -كـ ابن رجب - يقول: اعلم أنه لم يصح عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا الأئمة المتبوعين أنه جعل طلاق الثلاث واحدة.
فهو يرى أن هذا القول لا أصل له، وهذا اجتهاده، لكن الذي نتكلم عنه هو الخروج إلى قول معروف وليس إلى قول شاذ، فإنه إذا كان القول شاذاً أو لا أصل له؛ فهذا لا جدال في أنه لا يخرج إليه، إنما الكلام هنا عن مذهب معروف، إذا استقرأت في مصنفات الآثار وجدت له أصلاً معروفاً.
المذهب الثالث: أن الخروج عن المذاهب الأربعة سائغ، فليس لازماً وليس ممنوعاً؛ بل هو سائغ، ولكن بضوابط:
الضابط الأول: أن يكون الخروج إلى قول محفوظ بين وليس شاذاً، كأن يكون قول جماعة من التابعين أو قول بعض أئمة الشام، أو قول بعض كبار المحدثين، ونحو ذلك، وهذا من طرق العلم به النظر في المصنفات، كمصنف عبد الرزاق، ومصنف ابن أبي شيبة، أو بعض كتب الخلاف المتقدمة؛ كاختلاف الفقهاء لـ محمد بن نصر المروزي، ونحو ذلك، وقد يقول الإمام الترمذي أحياناً: هذا المذهب عليه أكثر أهل العلم ..
وذهب طائفةٌ من أهل الحديث إلى كذا ..
ثم تجد أن القول الذي وصفه بأن عليه أكثر أهل العلم هو مذهب الأئمة الأربعة فيما بعد، فمعناه أن الترمذي حفظ القول الآخر.
الضابط الثاني: أن يكون الخروج إلى قول إمام متقدم، ويخرج بهذا الضابط الخروج إلى قول فقيه متأخر أو معاصر خالف الأئمة، أو ليس له إمام في قول تكلم به والمسألة قد تكلم فيها، أما إذا كانت المسألة لم يُتكلم فيها فهذا له كلام آخر فيما يسمى: مسائل النوازل.
الضابط الثالث: أن يكون الذي يرى الخروج عن المذاهب عنده ظاهر الدليل.
الضابط الرابع: أن يكون الخروج عن المذاهب من فقيه عارف، فلا يجوز أن يتقحم فيه المبتدئ في طلب العلم ونحوه ممن لم يبلغ درجة الفقيه العارف.