[الأخذ بظاهر الدليل]
وهنا قد يقول قائل: لماذا لا يكون الخروج لازماً لظاهر الدليل؟ أليس الأصل أننا متعبدون بالكتاب والسنة، وما ظهر من الدليل فإن الأخذ به واجب كما يؤصله الكثير من الكبار؟
فنقول: إن الأخذ بظاهر الدليل كأصل أمر لازم عند عامة الأئمة، وليس هناك خلاف معتبر في هذا الأصل كأصل مختص وحده، وهو أن الأخذ بظاهر الدليل لازم على جميع المكلفين، فإن هذا لا جدال فيه بين المتقدمين، إنما يقال: لما انتظمت المذاهب الأربعة بقول، مع ثبوت هذه المذاهب واستقرار طريقتها في الأمة قروناً متوالية، فإن الذي أسقط الإلزام هو اعتبار ممكن وليس اعتباراً لازماً؛ لأنه لو كان هذا الاعتبار لازماً لقلنا بالمنع، وهذا الاعتبار هو: أن تعيين ظاهر الدليل لا يخفى على الجمهور، وهذا كلام ممكن، ومن هنا قيل: إن الخروج ليس بلازم، وقيل: إنه ليس ممتنعاً.
وكما ذكر ابن تيمية رحمه الله: أنه استقرأ مسائل الشريعة فإذا القول الذي عليه الجمهور في الجملة هو الصواب، وهذا هو مقتضى الشرع والعقل، فإنه يمتنع شرعاً وعقلاً أن يتوارد أئمة الأمصار على ترك ظاهر الدليل، فإذا عرض ما ترك الجماهير ظاهره، فهذا يمكن أن يكون دليلاً على كونه غير مراد لحجةٍ عندهم.
وقد يقول البعض ولا سيما من يرون الإلزام كـ ابن حزم، أو أصحاب الحديث المعاصرين، أو ممن قبلهم الذين يميلون إلى طريقة أهل الحديث -قد يقولون: إن القول بأن الظاهر لا يخفى على الجمهور هو إمكان وليس إلزاماً، ومجرد الإمكان لا يسلم، قالوا: لأن عندنا أمثلة ظاهر الدليل فيها يدل على حكم، ومذهب الأئمة الأربعة على حكم آخر، فيقال: فإذا عرض ما ترك الجماهير ظاهره فهذا يمكن أن يكون دليلاً على كونه- أي: هذا الظاهر المعين- غير مراد لحجةٍ عندهم.
وقد يقول قائل: هل معنى هذا أننا نترك بعض الظاهر لمحض قول الجمهور؟ والجواب: أن هذا ليس هو المقصود، فنحن هنا نتكلم عن مسألة الإمكان، والذي يحقق ذلك هو الإجابة عن سؤال، وهو: هل الظاهر الذي يوجب الحكم هو النظر في معين أم النظر في المجموع؟ بمعنى: هل تعيين الظاهر يكون بالنظر في دليل واحد أم بالنظر في مجموع أدلة؟
نقول: يتعين بالنظر في مجموع أدلة، فإذا نظرت في دليل معين قلت: إن الظاهر خلاف قول الجمهور، ولكن إذا جمعت مجموع الأدلة تبين أن الجزم بأن قول الجمهور يخالف الظاهر فيه تأخر في الجملة، وذلك لأن الظاهر هو مجموع النظر في الدليل، وليس النظر المعين, وإلا فثمة اتفاق على الأخذ بالظاهر وترك أقوال الرجال، فإن السلف متفقون أن ظاهر كلام النبي صلى الله عليه وسلم يقدم على أقوال الرجال، إلا أن يكون في المسألة إجماع، فيعلم حينئذ أن هذا ليس ظاهراً.
فيقال إذاًَ: إن تعيين الظاهر لا يخفى على الجمهور، فإذا عرض ما ترك الجماهير ظاهره فهذا يمكن أن يكون دليلاً على كونه غير مراد؛ وذلك لأن الظاهر هو مجموع النظر وليس النظر المعين.
وهذا نؤصل به لعدم القول بالإلزام التي هي طريقة ابن حزم، بمعنى: هل يسوغ لبعض أهل العلم أن يلتزم المذاهب ويقول: أنا لا أخرج في الفتوى والقول عن المذاهب الأربعة؟ نقول: إن ذلك يسوغ، فإذا اعترض عليه وقيل: كيف يسوغ وقد يترك لذلك ظاهراً؟ قيل: هو بنى على هذه الحجة وهي أن الجمهور لا يخفى عليهم الظاهر في الجملة، فإن عرض ما ظاهره الخفاء فإن مرده عنده يمكن أن يفسر بأن هذا الظاهر ليس مراداً؛ لأن الظاهر هو مجموع النظر وليس النظر المعين، وهذا المنهج لا أقول: إنه منهج لازم، ولكن أقول: إنه منهج ممكن.
ومن الأمثلة على ذلك: قول ابن عباس رضي الله عنهما كما في الصحيحين: (جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر)، فربما قال قائل: إن ظاهر الحديث يدل على جواز الجمع بدون عذر، وهذا حديث متفق على صحته، ولكن نقول: إن هذا التفسير للحديث ليس مراداً، ولذلك يقول الإمام الترمذي في الجامع: إن هناك أحاديث ترك العلماء العمل بها، وذكر منها حديث الجمع هذا، وحديث أن شارب الخمر يقتل في المرة الرابعة، والصواب أنه لا يقتل، وإن كان ابن تيمية يذهب إلى أنه هذا القتل راجع إلى تعزير الإمام، والصحيح أن الشرب لذاته لا يجوز فيه القتل، أما إذا تعلق بالشرب فساد في الأرض، مثل المتاجرات والترويجات وما إلى ذلك، فهذه مناطات أخرى، وأيضاً الأمر هنا يتعلق بالخمر، وأما هذه التي هي نوع من الخمر لكنها أصبحت نوع من الضرر السريع القاتل؛ كالمخدرات الحادة التي بدأت تنتشر ووفدت إلى بعض البلاد من بعض العوالم التي عدم فيها الانضباط، مثل الكوكايين والهروين ونحوها، فهذه أعلى حكماً في التقدير الشرعي من خمر النبيذ وخمر العنب وخمر التمر وما إلى ذلك، وهناك فروقات طبية وفروقات من جهات شتى مصنفة علمياً تثبت الفرق بين هذه وهذه، فلا يتساويان في الحكم.
إذاً: هذا مثال للظاهر الذي ترك العمل به، وأحياناً قد يكون هناك ظاهر لم يترك العمل به لكنه فسر بفقه معين، فقد يرى البعض أن الظاهر يقتضي فقهاً آخر، مثل حديث الخوارج المتفق عليه، وهو قوله عليه الصلاة والسلام في الخوارج: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، فلم يفقه الصحابة من هذا الحديث أن المقصود به أنهم كفار، مع أنه قد قال بعض العلماء: إن هذا دليل على أن الخوارج كفار، وبعضهم يقول: الخوارج كفار بصريح السنة، ولكن يقال لهم: كيف تقولون ذلك مع أن الصحابة لم يفهموا هذا الفهم؟! ولا يقال: إن ذلك من باب درء الفتنة، فإنهم قد قاتلوهم وحصل القتال، فالحديث إذاً لا يدل على أنهم كفار.
ولذلك يقول ابن تيمية: إن هذا الحرف لا يفقه منه ذلك، ولو كان يفقه منه ذلك لفقهه الصحابة، فإن ظاهر مذهب الصحابة أنهم ليسوا كفاراً.
إذاً: هذا مما يبين أن الظاهر هو مجموع النظر، فإن الصحابة لم يكفروهم بهذا الحرف؛ ولأنهم نظروا إلى ظاهر السنة في هذه المناطات.