[مكونات الخلاف الفقهي]
أسباب الخلاف تتعلق بأربع جهات، وإذا أُخذت هذه الجهات الأربع ونُظر إليها نظراً منطقياً؛ وُجد أنها هي الجهات المكونة للخلاف الفقهي، أي: عنها يتكون الخلاف الفقهي، وهي كما يلي:
الجهة الأولى: جهة الدليل، والدليل فيه ثلاث حيثيات:
الحيثية الأولى: الدليل من حيث التعيين.
الحيثية الثانية: الدليل من حيث درجة الاحتجاج أو درجة الحجية.
الحيثية الثالثة: الدليل من حيث الثبوت.
الجهة الثانية: جهة المدلول من حيث الإفادة للحكم، وهي جهة الدلالة كما تسمى.
الجهة الثالثة: جهة المستدل، وهذه الجهة الكلام فيها قليل عند أهل الأصول، وإذا تكلموا فيها فإنما يتكلمون فيها من معتبر واحد في الجملة.
والمستدل: هو الفقيه، سواء كان مجتهداً أو لم يكن مجتهداً، ومعلوم أن أكثر من يتكلم ويفتي ليس هم أهل الاجتهاد؛ لأن المجتهدين أقل من الفقهاء غير المجتهدين، وهذه نتيجة طبيعية، فإن الذين يستطيعون أن يجيبوا عن كثير من المسائل -اليوم- هم كثير، ولكن إذا نظرنا إلى المجتهدين الذين بلغوا رتبة الاجتهاد العالية وجدناهم قليلين بالنسبة لسائر الفقهاء.
إذاً: المقصود بالمستدل من يفتي الناس وينقل لهم أقوال الفقهاء، أو يرجح في الخلاف الفقهي، سواء كان من أهل الاجتهاد، أي: من مؤسسي الخلاف، أو كان من ناقليه ومقرريه والمنتصرين له بوجه من الوجوه.
والمستدل فيه أربعة معتبرات:
المعتبر الأول: من حيث المجموع العلمي عنده، والمجموع العلمي في الغالب هو ما يذكره الأصوليون فيما يسمونه بشروط المجتهد، ومما يذكرون: أن يكون عارفاً بالناسخ والمنسوخ، عارفاً بأحاديث الأحكام، عارفاً بدلالة اللغة ..
إلخ.
المعتبر الثاني: البيئة الخاصة -وهذه الأسماء أو المصطلحات قد تكون جديدة من بعض الحيثيات، ولكن من حيث الحقائق هي مؤثرة، وقد أشار إلى درجاتها في التأثير جماعة من العلماء منهم المصنف، وابن حزم، والشاطبي ..
وغيرهم- والبيئة الخاصة قد تكون بيئة مذهبية؛ كانتحال الفقيه لمذهب فقهي، كانتحال الشافعي لمذهب الشافعية، وانتحال الحنفي لمذهب الحنفية، فهذه البيئة التي عاشها تؤثر فيه: أهو من متقدمي الأحناف أو من متأخريهم؟ وعلى أي كتب المذهب تمذهب؟ وعلى أي درجات فقه المذهب تمذهب؟ ..
وهكذا.
فالبيئة الخاصة قد تكون بيئةً مذهبية فقهية على أحد المذاهب الأربعة، وقد تكون بيئة على مذهب أهل الحديث؛ كبعض الصور التي ظهرت في التاريخ بعد عصر الأئمة، وهي أحوال لبعض أهل الحديث في الانفكاك من المذاهب الفقيه أو التمذهب بمذهب فقيه معين، وقصدهم هو التمذهب والالتزام بما دلت عليه النصوص وما إلى ذلك، والبيئة لها صور سيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى.
المعتبر الثالث: البيئة العامة، سواء كانت بيئة إقليمية تتعلق بإقليم، أو بحدود جغرافية معينة، فيكون أهل هذا البلد لهم طبيعة معينة أو تأثير معين، أو كانت بيئة تتجاوز إقليماً معيناً، وهذا أيضاً يؤثر في النتائج الفقهية.
المعتبر الرابع: التكوين الذاتي، ويقصد بالتكوين الذاتي: طبيعة المستدل: كيف خلقه الله؟ ومن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى خلق الناس متفاوتين، والفقيه واحد من الناس، فقد تكون له طبيعة تختلف عن الفقيه الآخر من حيث حرارة الطبع وبرودته، ومن حيث سعة العقل وعدم سعته، ونحو ذلك مما سنذكره إن شاء الله.
الجهة الرابعة لأسباب الخلاف هي: المسألة المستدل عليها، التي يراد إعطاء حكم لها، وأثر هذه الجهة هو من جهة اعتبار الفقيه لمحل المسألة من الشريعة: هل هي من الرتب الأولى في الشريعة، أم هي مما دون ذلك؟ وهل صرحت بها النصوص أم لم تصرح بها؟ وهل مقصود هذا الباب يتأتى عليها؟ وهذه سنتكلم عنها لاحقاً إن شاء الله تعالى.
هذه هي الجهات الأربع، وإذا تأملتها تأملاً منطقياً -ولا بأس بهذا التعبير- وجدت أن مناط المسائل العلمية لا يخرج عن أثر هذه الجهات الأربع.