[جواز الخروج عن المذاهب بضوابطه هو قول أكثر العلماء]
إذاً: هذه حجة ممكنة، لكن هل هي حجة لازمة فيقال: من خالفها فقد خرج عن السنة إلى البدعة والضلالة، أو إلى الغلط العلمي البين، وفارق جماعة أهل العلم وما إلى ذلك؟
نقول: هذا المنع فيه تكلف وزيادة، ولا أصل له، ولعله من نافلة القول أن نقول: إن المجوزين هم الأكثر من أهل العلم، ومن أخص المجوزين تقريراً وفعلاً شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فهذا القول هو الأصل، وهو المقتضي إذا حقق بضوابطه، وأما القول بالمنع فكما سبق أنه يلزم عليه سؤال سبقت الإشارة إليه؛ وهو: هل اتفاق المذاهب الأربعة -حتى ولو فسر المذهب بالمذهب الاصطلاحي وليس المذهب المنصوص عن الإمام- هل اتفاقها هو الإجماع أم لا؟ إذا قيل: إن اتفاقها هو الإجماع، فستكون الحجة في منع الخروج عنها لكونها إجماعاً، وهذا لا جدال فيه، ولكن إثبات أن اتفاق هذه المذاهب الأربعة في آحاد المسائل باطراد هو الإجماع المتقدم عند السلف -هذا الإثبات دونه (خرط القتاد) كما يقال.
قد يجتهد مجتهد في مسائل معينة، كما اجتهد ابن رجب في مسألة أن طلاق الثلاث طلقة واحدة، وقال: إنها لا أصل لها، فهذا لا بأس به، لكن أن يقال ذلك في كل المسائل فهذا دونه خرط القتاد؛ بل إنه من الممكن، وقد وجد بالفعل أن هناك أقوالاً معروفة في المصنفات -كما أشرت إليه- وفي بعض كتب الخلاف المتقدم وبعض كتب المحدثين أقوال الأئمة معتبرين، وليست معروفة عند المذاهب الأربعة، لا يلزم أنها راجحة، ولكن تبقى أقوالاً محفوظة لا ينكر على من أخذ بها تحت الضوابط المتقدمة.
وإذا قيل: إن ذلك ليس إجماعاً، بل هو قول الجمهور، ولكن يلزم عدم الخروج عنه، فهذا إلزام لا دليل عليه من الشريعة، وما هو الذي جعله لازماً؟ إن التعليل بتعليلات ليست لازمة في الحقائق العلمية الكاملة كأن يقال: إن هذا يقود إلى الفوضى وما إلى ذلك، هذا نوع -إن صح التعبير- من الضبط الأخلاقي للعلم، ولذلك قلنا: إن الخروج لا بد له من ضوابط، فإذا قيل: إذا فتحنا هذا الباب خرج الناس إلى الشاذ وتخبطوا وما إلى ذلك، فيقال: هذا له ضوابط، ولا يجوز أن تصادر الحقائق العلمية لتخبط مجموعة من الناس ضدها.
فنظرية الإغلاق لوجود متخبطين هذه لا تتناها، وحتى لو أغلقت سيتخبط أناس ..
وهكذا، فتحقيق الحقائق العلمية يكون من هذا الوجه، فإذا قيل: إنها ليست إجماعاً، فما هو الدليل على المنع من الخروج إلى قول معتبرين من المتقدمين وظاهر الدليل يوافقه؟ لا يوجد دليل، لا شرعي ولا عقلي، وأما فرض أنه لو كان هذا القول صحيحاً لعرفه الجمهور، فنقول: هذا فرض ممكن لكنه ليس بلازم؛ لأنه لو كان لازماً لوجد من طريقة المتقدمين أنهم يقصدون إلى أقوال الجماهير ولا يجتهدون بخلافها، ولوجد أن من طريقة المتقدمين التحذير مما خالف قول الجمهور، وهذا لا يحذرون منه على الإطلاق، وأما من يقول: إنهم قد حذروا من مخالفة قول الجمهور، ويذكر لذلك أمثلة، فالأمثلة حقيقتها ليست من هذا، فالإمام مالك أحياناً يحذر من قول الجمهور لأنه لم يبلغه إلا هذا القول مثلاً، ومن الأمثلة على ذلك: صيام الست من شوال، فإنه لم يحذر منه حقيقة، لكنه شبه أنكره، مع أن الجمهور على أن صيام الست من شوال مستحب.