للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الخروج إلى قول أحد الأئمة المتقدمين ممن هم في درجة الأئمة الأربعة]

الصورة الثانية: الخروج إلى قول من هو في درجة الأئمة الأربعة العلمية من الأئمة المتقدمين ممن حُفظ قولهم، كـ الثوري، ومن قبله النخعي، أو أئمة التابعين، أو بعض الأقوال المتقدمة.

فإذا وجد في مسألة ما أن بعض المتقدمين من أئمة السلف ممن هم في درجة الأئمة الأربعة علماً وفقهاً واستفاضةً عند الأمة، كـ الثوري مثلاً أو بعض أئمة الأمصار، بل بعضهم كان لهم مذاهب كـ الليث بن سعد والأوزاعي ونحوهم، أو من قبل هؤلاء من التابعين -إذا وجد أن لهم قولاً يخالف أقوال الأئمة الأربعة، فهل الخروج عن المذاهب الأربعة إلى هذا القول جائز بشرطه أم أنه ممنوع من أصله؟

الجواب: هو جائز بشرطه؛ لأنه إذا قيل: إنه ممنوع، فيرد سؤال وهو: إذا اتفق الأئمة الأربعة على قول فهل يكون إجماعاً؟ إذا قيل: إنه إجماع، فسيكون لزوم قولهم من جهة كونه إجماعاً لا من جهة كونه قول الأئمة الأربعة، فتخصيصه بالأئمة الأربعة حقيقته وهم في الذهن؛ لأنه لا يقال في كل أقوال الأئمة الأربعة أنها مسائل إجماع، بل بعضها مسائل فيها إجماع وبعضها ليس فيه إجماع؛ فلا يسوغ أن تخص مسائل الإجماع باسم الأئمة الأربعة؛ لأنه لو ساغ ذلك لخصت بالأربعة الراشدين من الصحابة رضي الله عنهم.

أما إذا قيل: إنه لا يلزم أن يكون إجماعاً، فإذا لم يكن إجماعاً، والقول الآخر قول بين معروف لأئمة معتبرين من التابعين والأئمة الذين هم في درجة هؤلاء، فما الذي يمنع شرعاً وعقلاً أن يكون الصحيح -إمكاناً وليس جزماً- في هذا القول؟ ليس هناك شيءٌ يمنع من ذلك، لا من جهة الشرع ولا من جهة العقل، ومن المعلوم أن المتقدمين لم يكونوا يثربون على من خرج عن أقوال الأئمة الأربعة، أعني الخروج الذي هو بشرطه، وكذلك لم يكونوا ينتقدون الأقوال البينة غير الشاذة، فكذلك من خرج إلى تقليد ما لم ينتقد فلا ينتقد؛ لأنه لو كان منتقداً لكان الأولى بالانتقاد ذلك الذي قلده.

وقد حاول بعض الفقهاء كـ ابن رجب رحمه الله أن يجمع جملة الأقوال إلى أقوال الأئمة الأربعة، ولو وجد ما يخالف قول الأئمة الأربعة من الأقوال فهو من جنس جمع الصحابة للقرآن على مصحف واحد وترك ما عداه.

والخلاصة: أن الخروج عن أقوال الأئمة الأربعة لقول معتبر -وليس لقول شاذ- عليه بعض فقهاء التابعين، أو بعض الأئمة المتبوعين كـ الأوزاعي والليث والثوري ونحوهم، فهذا جائز شرعاً وعقلاً، ولا يمنعه إلا من فرض أحد أمرين:

الأول: أن الحق محصور في غير الإجماع، والثاني: أن الحق الذي في غير قول الأئمة الأربعة لا يجوز اتباعه.

تنبيه: نحن هنا لا نتكلم عمن يفتي بالمذاهب الأربعة، ويقول: أنا لا أفتي إلا بالمذاهب الأربعة، فإن هذا لا يمنع، ولا ينكر عليه، وقد درج كثير من الفقهاء على هذا المنهج، كـ ابن رجب وغيره، فقد كانوا لا يفتون بما خرج عن المذاهب الأربعة، لكن هناك فرق بين كونه لا يفتي بما خرج عن المذاهب الأربعة، وبين كونه يجعل هذا ديناً لازماً على المسلمين، فمن خرج عن قول الأئمة الأربعة أنكر عليه إنكاراً شديداً، فهذا يلزم عليه إما أن الحق محصور في معين من الأقوال، وهذا غير صحيح، وإما أن أقوالهم فقط هي الإجماع، وهذا أيضاً غير صحيح.

إذاً: الصواب أن الخروج عن المذاهب الأربعة إلى قول إمام متقدم يسوغ بشرطه، وقولنا: (يسوغ) أي: أنه جائز وليس بلازم، ولذلك فقد ذكرت أنه من التزم أنه لا يفتي بخلاف المذاهب الأربعة فهذا التزام لا بأس به، وإذا كنا نسوغ أن يفتي البعض بالمذهب الحنفي أو الحنبلي وحده، فمن باب أولى أن من التزم أن لا يخرج عن المذاهب الأربعة أنه لا بأس به، وأرى أنه منهج يصلح لكثيرين وأولى لكثيرين، لكن من وصل إلى درجة كبيرة من التحقيق والعلم، وفقه الأقوال المتقدمة، والتفريق بين الشاذ وخلافه، والخلاف المحفوظ وعدمه، وما هو على وفق الأدلة وما هو على خلاف الأدلة، فخرج في بعض المسائل عن قول الأئمة الأربعة إلى قول أئمة متبوعين كـ الليث والأوزاعي أو من قبلهم من التابعين؛ فهذا مما يسوغ شرعاً وعقلاً، وقد درج عليه الكبار من المتقدمين فما أنكر عليهم، ولو أنكر عليهم لنقل.

وإذا كان لم ينكر على الفاعلين، فمن باب أولى أن لا ينكر على المقلدين، والمقلدون لم يوجدوا في هذا الزمن فقط، فإن الإمام الثوري مثلاً لما كان له رأي خالف فيه الجمهور، كان هناك أناس يقلدونه، فحيثما وجد القول يوجد من يقلده.

وقد يقول قائل: إن السبب في المنع أن أقوال الأئمة الأربعة تحررت فضبطت أصولهم الفقهية ونظم مذهبهم من أول الفقه إلى آخره.

فيقال: هل من شرط الأخذ بقول فقيه أن يعرف قوله في سائر المسائل؟ الجواب: لا، ولو شرط هذا الشرط لتعذر العمل بفقه الصحابة، فإنه لا يعرف كل فقه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلم يبلغنا إلا بعض فقههم، وكذلك الصحابة بلغ بعضهم عن بعض شيء ولم يبلغ البعض الآخر، فما يفقهه ابن عباس من فقه عمر أكثر مما يفقهه معاوية مثلاً، وما يفقهه الحسن بن علي من فقه أبيه علي أكثر مما يفقهه غيره من فقه علي، فالتفاضل هنا موجود، فلا يشترط إذاً أنه لا يخرج إلا إلى مذهب قد انتظم من أوله إلى آخره.

ثم إننا نجد أن الأصول غير متفق عليها كأصول منضبطة عند الأئمة، فإذا نظرنا في أصول فقه الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وجدنا خلافاً في كثير من المسائل، وإذا جئنا إلى الفروع وقرأنا الإنصاف أو الفروع أو كتب المذاهب الأخرى؛ وجدنا أنهم يختلفون كثيراً في تحرير المذهب والجزم حينما تتعدد الروايات، وليس معنى هذا أننا نشكك في استقرار المذاهب أو وجودها، لكن المقصود أنه لا يلزم أننا لا نعمل إلا بقول إمام له مذهب متكامل من أوله إلى آخره أصولاً وفروعاً، فإن هذا الشرط لا أصل له عند السلف، ولا أصل له عند الخلف كلزوم أو وجوب.

ومن الأمثلة على ذلك: أن مذهب الثوري لم يضبط كله، فإذا قال الثوري: إن بعض جلود السباع طاهرة، فهذا قول محدد، فإذا وافقه ظاهر دليل فإنه يجوز العمل به، كذلك لما ظهر لـ ابن تيمية أن طلاق الثلاث بلفظ واحد يعتبر طلقة واحدة على ظاهر حديث ابن عباس، مع أنه خلاف الأئمة الأربعة، فإنه يجوز العمل به.

<<  <  ج: ص:  >  >>