[ما حفظ فيه قول بين يخالف قول الجماهير]
- المرتبة الرابعة: ما حفظ فيه قول بين، إما لمذهب أو لمصر، يخالف قول الجماهير من الأئمة:
كأن يختص الحنفية عن جمهور الفقهاء والأئمة بمذهب، وهذا له أمثلة كثيرة، أو يختص الحنابلة بقول عن جماهير الفقهاء ونحو ذلك، أو يختص أهل مصر، كأن يقال: مذهب جماهير أئمة الأمصار على كذا إلا أئمة المدينة فلم يكونوا يستحبون هذا الفعل، أو لم يكونوا يرون لزوم ذلك، أو كانوا يحرمون ذلك الفعل، ونحو ذلك، وهذا أيضاً له أمثلته.
وقولنا: (يخالف الجماهير) قد يقول قائل: لماذا لا نقول: خالف الأئمة الأربعة أو جمهور الأئمة الأربعة؟
والجواب: أننا نتكلم عن مراتب القول الفقهي عند المتقدمين قبل أن يتعين أربعة دون غيرهم بمذاهب فقهية، أيضاً هؤلاء الأئمة الأربعة مع علو درجتهم لكن كان هناك مثلهم من أصحابهم كثير، بل وممن قبلهم، كأئمة الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم، وهذا هو ما يجعلنا نقول: يخالف الجماهير من أئمة الأمصار، فهذا ما حكمه؟ وكيف يتعامل معه؟
يقال: الأصل فقهاً أن يعظم قول الجمهور، فإن الجماهير من أئمة الأمصار إذا تواردوا على قول فهذا القول إن لم يكن راجحاً رجحاناً بيناً فهو قول قوي لا يجوز تضعيفه في أكثر الموارد، وأعني بالتضعيف هنا الإسقاط، والتعبير بكلماتٍ توحي بإسقاطه، كقول البعض: وأما القول الثاني فهو قول الجماهير من أئمة الأمصار، وهو قول لا دليل عليه، والتضعيف بهذا النظام يدل على وجود خلل في الحصيلة الفقهية عند بعض الناس.
فإذا توارد أئمة الأمصار ككبار المحدثين، وكبار أئمة الكوفة، وأئمة المدينة كـ مالك ومن قبل مالك كـ ابن المسيب، وأئمة مكة كـ عطاء وأمثاله -إذا توارد هؤلاء الأئمة على حكم، فهذا كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إني استقرأت مسائل الشريعة فإذا القول الذي عليه جمهور الأئمة هو الصواب في الجملة.
وهذا هو فقه الاستقراء، ثم علله بتعليل شرعي وهو عقلي من جهة فقال: لأنه يتعذر في الجملة أن يخفى الصواب من السنة والهدي على جمهور أئمة الأمصار ما بين فقهاء ومحدثين.
فإذا رأيت جمهورهم قد تواردوا على قول فلابد أن يكون له إكبار وإجلال، ولا ينبغي أن تتخطى رقاب الأئمة إلا إلى فرجة بينة، وهذه الفرجة البينة لا يشاهدها الآحاد من المبتدئين في طلب العلم، بل لا يصل إليها إلا من وصل إلى درجة من العلم والفقه والسعة في النظر والتتبع.
وإنما ذكرنا هذا حتى لا نلتزم بنظرية مقابلة وهي نظرية الإلزام بقول الجمهور، فإن الإلزام بقول الجمهور ليس عليه دليل، فليس هناك دليل لا من الكتاب ولا من السنة أنه يلزم العمل بقول الجمهور، والدليل على هذا: أن بعض الصحابة خالف جمهور الصحابة ولم يُنكر عليه، وكذلك بعض الأئمة خالف قول الجمهور، ولو كانت مخالفة الجماهير ممنوعةً لأنكروا عليه، ولم ينقل أنهم أنكروا على فلان أو فلان لأنه خالف الجماهير، بل كانوا يحفظون أقوالهم لكنهم قد لا يعملون بها.
فمثلاً: الإمام أحمد سئل عن الحائض إذا طهرت في وقت العصر أتصلي الظهر، أما أنها تصلي العصر فقط؟ فقال أحمد: تصلي الظهر، أي: تصلي العصر وتصلي الظهر، قيل: فما وجهه يا أبا عبد الله؟ لأنه ليس هناك دليل صريح من السنة على هذا القول، فقال الإمام أحمد: عامة التابعين على هذا القول إلا الحسن.
فلم يحكم على قول الحسن بالشذوذ، ولم يطعن في الحسن، لكن قال ذلك باستقرائه، وفقه الاستقراء اليوم شبه غائب، ولذلك لا ينبغي أن يتعجل الإنسان في الركض بين الأئمة، قال الإمام أحمد: عامة التابعين على هذا القول إلا الحسن، وما دام أن عامة التابعين يقولون به فأنا أقول به، وليس معنى هذا أن الإمام أحمد يريد أن يقول: لا أجد على هذا دليلاً؛ بل إن هناك دليلاً على هذه المسألة، فلو رجعنا إلى فقه النصوص لوجدنا أن الحائض من أهل الأعذار، والقاعدة الشرعية: أن الوقت في حق أهل الأعذار يتحد، وهذا له صور منصوصة في الشريعة، ومنها: جمع المسافر بين الصلوات، ونحو ذلك، وليس هذا من الأعذار التي يقصد منها التوسع الشرعي كما في الحج، فإنه يجمع بين الصلوات لحفظ الاشتغال بالذكر في المناسك، مع أن الصلاة عبادة حتى لو اشتغل بها في وقتها، ومع ذلك جمع النبي صلى الله عليه وسلم ليتفرغ للمنسك الخاص.
فمثل هذا التحصيل هو الدليل الذي كان التابعون يتواردون عليه، وهو أنهم فقهوا من الشريعة أن الوقت في حق أهل الأعذار يأتي على هذا الوجه.
بقيت هنا مسألة وهي: هل معنى ذلك أن قول الجمهور ملزم؟
والجواب: أن قول الجمهور ليس بملزم، فقد يجتهد مجتهد ويقول بغير قول الجمهور، كما حصل عند الصحابة، فقد اجتهد بعضهم بما خالف جمهورهم في بعض المسائل، وكما حصل من بعض الأئمة، ولو كان هذا ممنوعاً لما وجدت هذه الصورة؛ بل لأنكرت عند السلف وأصبحت من البدع والمحدثات التي ترد.
والمخالفة تكون بأحد وجهين:
الوجه الأول: أن يكون المخالف من أهل العلم والاعتبار في العلم، فيجتهد بخلاف قول الجمهور، كأن يأخذ بالقول البين لمذهب أو لمصر، وهذا لا جدال فيه، وهو شأن واسع، فإننا نجد أن فروع الحنفية خلاف قول الجمهور، وبعض فروع الحنابلة خلاف قول الجمهور، وبعض فروع المالكية وكذلك الشافعية خلاف قول الجمهور، ومع ذلك فهناك كثير من الفقهاء يأخذون بهذه الفروع التي تخالف الجماهير، فهذا فيه سعة على مثل هذا التقدير.
الوجه الثاني: أن يكون بعض العامة أو المبتدئين ربما قلد شيخه الذي هو بين يديه فسأله عن مسألةٍ فأفتاه بخلاف قول الجمهور، لكن إذا جئنا إلى نظام الإفتاء العام، بمعنى إفتاء العوام من الناس، أو إلى مسألة البحث العلمي، فيجب على المتكلم أن يترفق في اللغة والتعبير وأشياء كثيرة إذا خالف قول الجمهور.