إذا كان كذلك فيقال: إنه عند استقراء فقه القرون الثلاثة الفاضلة نجد أن الناس لا يخرجون عن هذه الأصناف الأربعة: إما مقلد محض حقه السؤال فيجاب بالحكم، ولا يلزمه أن يعرف الدليل؛ بل يجيبه العالم الموثوق بعلمه فيستجيب لجوابه، وهذا معنى قول الله:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[النحل:٤٣]، فهؤلاء موصوفون بعدم العلم.
أو ناظر، وهو من يملك القدرة العلمية على فهم أقوال الفقهاء والاختيار منها، أو فقيه وهو رتبتان: الأولى: من يملك القدرة العلمية على فهم أقوال الفقهاء والاختيار منها مع معرفته بجمهور الأقوال في مذهب، الرتبة الثانية -وهي العالية-: مع معرفته بجمهور الأقوال في المذاهب.
والصنف الرابع هو المجتهد، وقد ذكرت سابقاًَ أن كثيراً من كتب أصول الفقه المتأخرة وضعت شروطاً للاجتهاد ربما تكون أحياناً مثالية، وهذا يعتبر إغلاقاً نظرياً للاجتهاد، لكن في الواقع لم يغلق الاجتهاد؛ لأن الأمة يتعذر عقلاً أن تعيش بلا اجتهاد، وإذا ما وجد مجتهد فسيجتهد من في الطبقة التي هي أقل، وإذا ما وضع نظام ممكن للاجتهاد فسيأتي الأناس الذين عندهم إرادة للاجتهاد وليس أهلية للاجتهاد، وإلا فإن الأمة ستتحرك، ومن الملاحظ أنه في هذا العصر عندما تنزل نوازل كلية فإن الناس لا يسكتون عنها، فلما أصبحت نظرية الاجتهاد العلمية في كلام المتأخرين -وأقول: المتأخرين من الأصوليين- مثالية لم يقل الناس: إن فلاناً فقط هو المجتهد، وفلان يقبل الاجتهاد أو يتأهل للاجتهاد، بل تحرك آحاد من طلبة العلم أحياناً لنوازل كبرى ليس عندهم إلا إرادة، وقد يسميها البعض شجاعة مع أنها قد لا تسمى شجاعة، إنما هي إرادة من النفس، فتحرك تحت تأثير الجماهير أحياناً أو لسبب آخر، أو تحت ضغط واقع معين أو ما إلى ذلك.
فالمشكلة أنه بهذه الطريقة لا يغلق الاجتهاد؛ لأنه يستحيل أن يغلق الاجتهاد، وإلا فماذا تفعل الأمة في نوازلها الكلية التي ما تكلم عنها الفقهاء الأربعة أو من كان قبلهم؟