الوجه الأول: إذا جاء من عارف فقيه فإن الترتيب بمعنى أنه يفقه أصول المذهب، فيفقه الحنفي درجة القياس في مذهب أبي حنيفة وأين يستعمل، كما أن الحنبلي يفقه درجة قول الصحابي وأين يستعمل، ويفقه المنطوق والمفهوم، وهل يعمل المذهب بالمفهوم أم لا؟ والمقصود: أنه يدرس أصول فقه المذهب، وذلك مثل تمذهب ابن عبد البر على مذهب الإمام مالك، فليس تمذهبه مجرد أنه قرأ فروعاً متنية على فقيه مالكي؛ بل إنه يعرف أصول مذهب الإمام مالك، فهذه الدرجة العالية في الترتيب العلمي للتمذهب أنه يقصد إلى فقه أصول المذهب، ومن باب أولى أن يأخذ بعد ذلك الفروع.
الوجه الثاني -وهو الشائع الآن عند كثير من المجالسين لفقهاء المذاهب في أمصار المسلمين-: أن بعض طلاب العلم لا يصل إلى أنه يعرف أصول المذهب بقدر ما هو يحفظ فروع المذهب على طريقةٍ معينة، فهذا أيضاً وجه من الترتيب العلمي.
فالترتيب العلمي قد يكون ترتيباً باعتبار أصول المذهب، وهذه حال الكبار من المتمذهبين، وقد يكون ترتيباً باعتبار الأخذ بفروع المذهب وإن لم يدخل في تفاصيل أصول المذهب.
فإذا أخذ التمذهب كترتيب علمي يبنى عليه ولا يترك بيّن الدليل من أجله، إنما كترتيب علمي ليعرف نظم المسائل ولينضبط قوله، فهذا كترتيب علمي لا يجوز إنكاره.
ولقائل أن يقول: ما هو الدليل على ذلك؟ وهنا نرجع إلى قضية الدليل النصي والدليل الاستقرائي، ومن الدليل الاستقرائي: أن هذه المذاهب استقرت في القرن الرابع الهجري، وهذا لا يجادل فيه أحد، فمتى نقل أن أعياناً من العلماء المعتبرين قد صرحوا بتحريم التمذهب كترتيب علمي؟ أما كتقليد وتعصب وترك لظاهر الأدلة فهذا معلوم من الدين بالضرورة تحريمه، ولا يحتاج أن ينقل عن فلان أو فلان من الناس، ولذلك فإن بعض من يحرمون التمذهب يقولون: قال ابن القيم كذا، مع أن ابن القيم حنبلي فما الذي كان ينكره وهو حنبلي؟ أو يقولون: قال شيخ الإسلام ابن تيمية أو ابن رجب كذا، مع أنهما حنبليان، فالتمذهب بمعنى التقليد والتدين والالتزام والاختصاصات والتعصبات، هذا المفهوم هو المخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، أما التمذهب كترتيب علمي مع عدم الإلزام به إلا من باب ترك الفوضى العلمية وما إلى ذلك، فهذا إلى القرن العاشر -فيما أعلم- لم يحفظ عن إمام معتبر أنه منع منه، إنما الذي صرح المتقدمون كالأئمة الأربعة أنفسهم والفقهاء من أصحابهم المحققين، كبعض الذين ذكروا في المصنفات التي ذمت التقليد والمقلدين وما إلى ذلك -الذي صرحوا بمنعه والتحذير منه هو التمذهب بمعنى التقليد والتعصب وتقديم المذهب على الدليل ..
ونحو ذلك.
أما التمذهب كترتيب علمي فلم ينكر على هذا الوجه، بل إن جماهير علماء المسلمين في سائر بيئاتهم كانوا يتمذهبون على هذه المذاهب، مع أنهم درجات، فمنهم المحققون الذين انتظموا على فقه المذاهب بشكل صحيح، ومنهم دون ذلك.