وهذا من الفقه الذي يذكره بعض المتقدمين، كأن يقول الترمذي مثلاً: وهذا عليه العمل عند أكثر أهل العلم، أو ينقل أن أكثر الصحابة كانوا يعملون كذا، ومن الأمثلة على ذلك - مع أن الأمثلة قد تكون قابلة للمراجعات -: المسح على الجوارب - أي: الشراب - فليس فيه نص صحيح من السنة، وإن كان قد ورد فيه حديث لكنه لا يصح، لكن الإمام أحمد يذهب إلى جواز المسح على الجوارب، مع أن المسح على الخفين قد أجمع الفقهاء عليه، ودليله يعتبر من الدليل المتواتر، فباب المسح على الخفين ليس فيه جدال، إنما المقصود هنا هو المسح على الجوربين، فمذهب الأئمة الثلاثة أبي حنيفة ومالك والشافعي أنه لا يمسح على الجوارب، وهذه المسألة تعتبر من فرائد مذهب الإمام أحمد، فالإمام أحمد لما رأى جواز المسح على الجوارب وسئل عن ذلك قال: قد جاء ذلك عن تسعةٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهو قد عامل المسح على الجوارب بأنه عمل بعض الصحابة، فلما ورد عن تسعة من الصحابة أوصله الإمام أحمد إلى رتبة الأخذ به والاعتبار، فقواه بجهة العمل.
وكذلك مسألة زكاة الحلي، فالإمام أحمد ومالك والشافعي يذهبون إلى أن حلي النساء المستعمل لا زكاة فيه، وإنما قال بوجوب الزكاة فيه الإمام أبو حنيفة رحمه الله، ولما سئل الإمام أحمد عن ذلك قال: ورد عن خمسة من الصحابة أنه لا زكاة فيه.
ومن منهج الإمام أحمد وكثير من المتقدمين أنهم يلاحظون جهات أقوى في الاعتبار، فإن من هؤلاء الخمسة عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو راوي أقوى حديث في الباب، وهو حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده:(أن امرأة يمانية أتت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها ابنتها وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب ...) الحديث، ولما كان عبد الله بن عمرو يفتي بأن حلي النساء لا زكاة فيه؛ فإن هذا إشارة إلى الطعن في صحة الحديث.
وهناك قاعدة ذكرها كثير من المتأخرين وهي: إذا تعارض رأي الراوي مع روايته، فالجمهور على أنه تقدم روايته على رأيه.
وهذه القاعدة كقاعدة منضبطة ليست على هذا الإطلاق، بل هناك أمثلة كثيرة عند المتقدمين ليست من باب أنهم يقدمون رأي عبد الله بن عمرو على ما صح من روايته، ونحن إذا بنينا على هذا النظام فبدهي أن ما صح إلى النبي عليه الصلاة والسلام هو المقدم، لكنهم يجعلون هذا من باب الإعلال أحياناً وليس دائماً، فإذا انضبط للراوي رأي يخالف صريح ما روى، فلا بد أن ينظر في صحة روايته، فهذه القاعدة على هذا الإطلاق هي من تبسيط الحقائق، وقد تكلم فيها فقهاء قد لا يكون لهم سعة علم بالعلل المعروفة عند المحدثين.
ومن الأمثلة على ذلك: لما سئل الإمام أحمد عن الحائض - وقد سبق المثال -: أتصلي الظهر إن طهرت وقت العصر؟ فقال عامة التابعين على هذا القول، فهنا اعتبر عمل عامة التابعين، وجعله مرجحاً لما يقول به.
وهناك أمثلة كثيرة على هذا المناط -وهو الترجيح بما عليه العمل- ليس هذا موضع بسطها.
ومما ينبه إليه: أن هذه المناطات تتداخل فيما بينها، فهناك تداخل بين هذا المناط - وهو الترجيح بما عليه العمل - وبين المناط السابق، وهو الترجيح بالأكثر.