وقد تكونُ دلالته مِنْ باب القياس، فإذا نصَّ الشَّارع على حُكم في شيءٍ لمعنى من المعاني، وكان ذلك المعنى موجودًا في غيره، فإنَّه يتعدَّى الحكمُ إلى كل ما وجد في ذلك المعنى عندَ جمهورِ العلماء، وهو من باب العدل والميزان الذي أنزله الله، وأمر بالاعتبار به، فهذا كلُّه ممَّا يعرَفُ به دلالة النُّصوص على التَّحليل والتَّحريم.
فأمَّا ما انتفى فيه ذلك كلُّه، فهُنا يُستدلُّ بعدم ذكره بإيجابٍ أو تحريمٍ على أنَّه معفوٌّ عنه، وهاهنا مسلكان:
أحدهما: أن يُقالَ: لا إيجابَ ولا تحريمَ إلَّا بالشَّرع، ولم يوجب الشَّرعُ كذا، أو لم يحرَّمه، فيكونُ غيرَ واجبٍ، أو غيرَ حرامٍ، كما يقال مثلُ هذا في الاستدلال على نفي وجوب الوتر والأُضحية، أو نفي تحريم الضَّبِّ ونحوه، أو نفي تحريم بعضِ العُقود المختلفِ فيها، كالمساقاة والمزارعة ونحوِ ذلك، ويرجعُ هذا إلى استصحاب براءَةِ الذِّمَّةِ حيث لم يُوجَدْ ما يدلُّ على اشتغالها، ولا يصْلُحُ هذا الاستدلالُ إلَّا لمن عرف أنواعَ أدلَّة الشَّرع وسبرَهَا، فإنْ قطع - مع ذلك - بانتفاء ما يدلُّ على إيجابٍ أو تحريمٍ، قطع بنفي الوجوب أو التحريم، كما يقطع بانتفاء فرضية صلاةٍ سادسةٍ، أو صيام شهرٍ غير شهر رمضان، أو وجوب الزَّكاة في غير الأموال الزَّكويَّة، أو حَجَّةٍ غير حَجَّةِ الإسلام، وإن كان هذا كلُّه يستدلُّ عليه بنصوصٍ مصرِّحةٍ بذلك، وإن ظنَّ انتفاء ما يدلُّ على إيجابٍ أو تحريمٍ، ظنَّ انتفاء الوجوب والتحريم من غير قطع.
والمسلك الثاني: أن يذكر مِنْ أدلَّة الشَّرع العامة ما يدلُّ على أن ما لم يوجبه الشَّرع، ولم يحرمه، فإنه معفوٌّ عنه، كحديث أبي ثعلبة هذا وما في معناه من الأحاديث المذكورة معه، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا سئلَ عن الحجِّ أفي كلِّ عام؟ فقال: "ذروني ما تركتكُم، فإنَّما هلك مَنْ كان قَبلَكم بكثرةِ سؤالهم واختلافهم