للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

صحة البيع بأنَّ البائعَ غيرُ النَّاجش، وأكثرُ الفقهاء على أنَّ البيعَ صحيحٌ مطلقًا وهو قولُ أبي حنيفة ومالكٍ والشَّافعيِّ وأحمد في رواية عنه، إلَّا أنَّ مالكًا وأحمد أثبتا للمشتري الخيارَ إذا لم يعلم بالحال، وغُبِنَ غَبنًا فاحشًا يخرج عن العادة، وقدَّره مالكٌ وبعضُ أصحاب أحمد بثلث الثَّمنِ، فإن اختارَ المشتري حينئذٍ الفسخَ، فله ذلك، وإن أراد الإِمساكَ، فإنَّه يحطُّ ما غُبِنَ به من الثَّمن، ذكره أصحابنا.

ويحتمل أن يُفسَّرَ التَّناجُشُ المنهيُّ عنه في هذا الحديث بما هو أعمُّ من ذلك، فإنَّ أصلَ النَّجش في اللُّغة: إثارةُ الشَّيءِ بالمكرِ والحيلةِ والمخادعةِ، ومنه سُمِّي النَّاجِشُ في البيع ناجشًا، ويسمَّى الصَّائدُ في اللغة ناجشًا، لأنَّه يُثير الصَّيد بحيلته عليه، وخِداعِه له، وحينئذٍ، فيكونُ المعنى: لا تتخادَعوا، ولا يُعامِلْ بعضُكُم بعضًا بالمكرِ والاحتيال. وإنَّما يُرادُ بالمكر والمخادعة إيصالُ الأذى إلى المسلم: إمَّا بطريقِ الأصالة، وإما اجتلاب نفعه بذلك، ويلزم منه وصولُ الضَّرر إليه، ودخولُه عليه، وقد قال الله - عز وجل -: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: ٤٣]. وفي حديث ابن مسعودٍ عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ غَشَّنا فليس منَّا، والمكرُ والخِداعُ في النار" (١). وقد ذكرنا فيما تقدَّم حديث أبي بكر الصدِّيق المرفوع: "ملعونٌ من ضارَّ مسلمًا أو مكرَ به" خرَّجه الترمذيُّ (٢).

فيدخل على هذا التقدير في التناجش المنهي عنه جميعُ أنواع المعاملات بالغشِّ ونحوه، كتدليس العيوب، وكِتمانها، وغشِّ المبيع الجيد بالرديء، وغَبْنِ المسترسل الذي لا يَعرِفُ المماكسة، وقد وصف الله في كتابه الكفَّار والمنافقين بالمكر بالأنبياء وأتباعهم، وما أحسنَ قول أبي العتاهية:


(١) رواه الطبراني في "الكبير" (١٠٢٣٤)، و"الصغير" (٧٣٨)، وأبو نعيم في "الحلية" ٤/ ١٨٨ - ١٨٩، وصححه ابن حبان (٥٥٥٩).
(٢) تقدم تخريجه ص ٦٨٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>