للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حكى القاسم بنُ جريال، قالَ: اضطررتُ حينَ مشاهدةِ المَعيش، ومساعدةِ سهْم المكاسِب المَريْش، وشِباكِ الأشَرِ الواصبِ، واشتباكِ صِعاد البَطَر الحاصبِ، إلى مُجاورةِ الأعراب، اضطرارَ الأسماءِ إلىَ الإعرابِ، لأكتسبَ عقودَ كفاحَهِم وأحتلبَ عقودَ إفصاحِهِم، وأرتضعَ حَبَبَ حبائِهِم، وأضطبع لِسَعْى معرفةِ احتبائِهم، وأنخرِط في نِصاح حُماتِهم، وأقتبسَ نفائَس مُحاماتِهم، فَجعلتُ أجوبُ الفِجاجَ، وأستجلبَ المُجاجَ، وأستفتحَ الارتياج، وأستمحُ من طَفَحَ بالمُلَح وماجَ، فلم يبقَ معنىً إلاّ سُمْتُه، ولا مغنىً إلاّ وَسَمْتُهُ، ولا حُسَام إلاّ شِمْتُهُ، ولا بَشامٌ إلاّ شممته حتى حويت محامد الخِلالِ، وانثنيْت عن معاهدِ الإخلالِ، وجنَّبْتُ عن منهج الجَهالةِ، وأطنبتُ في طلَبِ سَنام التسنُّم والإهالةِ، فلمّا بلوتُ الأنبياءَ، وتلوْتُ الأصفياءَ، حمدتُ اللهَ على صفاءِ القريحةِ، وصلاح النيّةِ الصريحة، وارتِضاع البراعةِ واستبضاعُ عُروض هاتيكَ البضاعةِ، فبينما أنا أهُب بالاندفاقِ، وأرب أفق الاتفاقِ، إذ ألجأني عَدم الرفيقِ، في ليلةٍ فاحمةِ الأفيق، إلى حيٍّ ذكيِّ البوغاء، زكيِّ الرُّغاءِ، مفتوح المذاهبِ، ممتوح المواهبِ. فدنوتُ إلى حواءٍ جميلِ المَساندِ، جليلِ الأسائدِ، فتلقِّيْتُ باحترام، ولقيت أشرفَ مقام، ودارتْ علينا صنوفُ الصِّحافِ، وضَمَّني حُسْنُ لحافِ ذَلكَ الالتحافِ، فلم نزل ما بين مُذاكرةٍ ذكيَّة، ومفاخرةٍ مَعْدَكيةٍ، إلى أن انفلَّ حسامُ الليلِ، وقَل قيلُ ذلك القَيلِ، ولمّا مالتِ الأجيادُ، وحَمْحمَتْ الجيادُ، وأفلَ لَهَبُ دُخانها، وطَلُعَ ذَنَبُ سِرحانها، قالَ صاحبُ حِوائنَا، وجابرُ سِنْسِنِ سَوَائنا: تاللهِ لقد أوحشَنا السحابُ المرعدُ والسّحوح المُزبِدُ، والبَطلُ الفارسُ، والهيصرُ الممارسُ، فلو جالسنا الليلةَ لرفَا ملابِسَ الإلهام، ونفى وساوسَ الأوهام، وضوَّعَ همهمةَ الاهتمام، وضيَّعَ غَمْغَمةَ الاغِتمام، فإنَّهُ خَليَّةُ المشتارِ، وهديَّةُ المُمْتَارِ، وعَروسُ السَامرِ، وخَنْدَريسُ المُسامر، قالَ القاسمُ بنُ جِريال: فلما شَرِبتَ الأنديةُ رحيقَ امتياحهِ، وطربتِ الأفئدةُ بأغاريد امتداحهِ، قلتُ له، إنِّي لأحبُّ أنْ تُطرِفَني بمشاهدتِهِ، أو تُتْحِفَني بلطيفةٍ من بُداهته، لأداوي علَّة هذا النُروع، وأنُاوي شدّةَ قلقِ قَلبي النَّزوع، فقالَ: اعلم أنه نزل بنا قوَمَ من آل صعفوق، في زمن منِ النوائب خفوقٍ، تقامُ بوصيدِ عبدانهِ الأحرار، وتهانُ لعزةِ عِزَّةِ بُرِّهِ الأبرارُ، وكنا يومئِذِ أولى نَزْوةٍ وراغيةٍ، وثروةِ وثاغيةٍ، وحمائلَ رايعة، وجمائلَ راتعةِ وجِفانِ مملوّةٍ بالثرائدِ، وضيفان مخدومةٍ بالخرائدِ، وكانوا إذ ذاكَ ذَوِي فاقةٍ مدقعَةٍ، وسعادةٍ متبرقِعةٍ، وأعباءٍ باهضةٍ، وأوباءٍ ناهضَةٍ، وأجوبةٍ خاليةٍ، وأحويةٍ بالحَزَن حالية، فَلَمْ نزَلُ نُملِّكهُم نُخبَ أرسانِنا ونسوفُ إليهم سُحُبَ إحسانِنا، ونملأ لَهُمْ حياضَ إنعامِنا، ودرأ عنهم أوبيةَ عامِنا، إلى أنْ غاثتِ السحائبُ، وأغاثتِ الكتائبُ، وهِطلَ الصبيرُ، وعظمَ العصير، وقصرَ الطويلُ، وطالَ القصيرُ، فلمّا انجلتْ مرآةُ بوسِهم، وجلَتْ عساكِرُ عُكوسِهم، وقَلّدْتُ بالدُّرَرِ غِلمانها، وأكلَ كثرةُ اللبنِ إيمانَها، جعلتْ تشمخُ بأنوفِهَا، وتتعززُ علينا بأنوفِها، وتهزأُ بنظافِنا، وتُنكِرُ طِيْبَ نطافِنا، وتتعرَّضُ لنضالنا وتجحَد فواضل إفضالنا، ولم يكفها ذلكَ، حرسَ اللهُ قُلَلَ إقبالِكَ، حتى نهضَ خطيبُهم واستطال، وأَنشأ خطبَةَ أنيقةً وقال:

<<  <   >  >>