قَالَ فَخَرَجَ الْغُلامُ مِنْ جَمِيعِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الثِّيَابِ تَخْرِيقًا ثُمَّ قَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ مُرْهَا تُغَنِّيكَ الصَّوْتَ الثَّانِي فَقَالَ غَنِّينِي بِشِعْرِ جَمِيلٍ
أَلا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادِي الْقُرَى إِنِّي إِذَنْ لَسَعِيدُ
إِذَا قُلْتُ مَا بِي يَا بُثَيْنَةُ قَاتِلِي ... مِنَ الْحُبِّ قَالَتْ ثَابِتٌ وَيَزِيدُ
وَإِن قُلْتُ رُدِّي بَعْضَ عَقْلِي أَعِشْ بِهِ ... مَعَ النَّاسِ قَالَتْ ذَاكَ مِنْكَ بَعِيدُ
فَلا أَنَا مَرْدُودٌ بِمَا جِئْتُ طَالِبًا ... وَلا حُبُّهَا فِيمَا يَبِيدُ يَبِيدُ
يَمُوتُ الْهَوَى مِنِّي إِذَا مَا لَقِيتُهَا ... وَيَحْيَا إِذَا فَارَقْتُهَا فَيَعُودُ
فَغَنَّتْهُ الْجَارِيَةُ فَسَقَطَ الْغُلامُ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ سَاعَةً ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ مُرْهَا فَلْتُغَنِّكَ الصَّوْتَ الثَّالِثَ فَقَالَ يَا جَارِيَةُ غَنِّينِي بِشِعْرِ قَيْسِ بْنِ الْمُلَوَّحِ الْمَجْنُونِ
وَفِي الْجِيرَةِ الْغَادِينَ مِنْ بَطْنِ وَجْرَةٍ ... غَزَالٌ غَضِيضُ الْمُقْلَتَيْنِ رَبِيبُ
فَلا تَحْسَبِي أَنَّ الْغَرِيب الَّذِي نأى ... وَلَك مَنْ تَنْئِينَ عَنْهُ غَرِيبُ
فَغَنَّتْهُ الْجَارِيَةُ فَطَرَحَ الْغُلامُ نَفْسَهُ مِنَ الْمُسْتَشْرَفِ فَلَمْ يَصِلْ إِلَى الأَرْضِ حَتَّى تَقَطَّعَ فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَيْحَهُ لَقَدْ عَجَّلَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَقَدْ كَانَ تَقْدِيرِي فِيهِ غَيْرَ الَّذِي فَعَلَ وَأَمَرَ فَأُخْرِجَتِ الْجَارِيَةُ عَنْ قَصْرِهِ ثُمَّ سَأَلَ عَنِ الْغُلامِ فَقَالُوا غَرِيبٌ لَا يُعْرَفُ إِلا أَنَّهُ مُنْذُ ثَلاثٍ يُنَادِي فِي الأَسْوَاقِ وَيَدُهُ عَلَى رَأْسِهِ
غَدًا يَكْثُرُ الْوَاشُونَ مِنَّا وَمِنْكُمْ ... وَتَزْدَادُ دَارِي عَنْ دِيَارِكُمْ بُعْدَا
قُلْتُ وَقَدْ رَوَى لَنَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا جَرَى فِي مَجْلِسِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَبَلَغَنَا عَنِ الْجَاحِظِ أَنَّهُ قَالَ قَعَدَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَوْمًا لِلْمَظَالِمِ وَعُرِضَتْ عَلَيْهِ الْقِصَصُ فَمَرَّتْ بِهِ قِصَّةٌ فِيهَا إِنْ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُخْرِجَ إِلَيَّ فُلانَةُ يَعْنِي إِحْدَى جَوَارِيهِ تُغَنِّي ثَلاثَةَ أَصْوَاتٍ فَعَلَ
فَاغْتَاظَ سُلَيْمَانُ وَأَمَرَ أَنْ يُخْرَجَ إِلَيْهِ فَيَأْتِيَهُ بِرَأْسِهِ ثُمَّ أُتْبِعَ الرَّسُولُ بِرَسُولٍ آخَرَ