فَأَتَاهَا فَلَمْ تُكَلِّمْهُ بِشَيْءٍ مِمَّا قَالُوا وَلَمْ تَزِدْ عَلَى أَنْ نظرت إِلَيْهِ ونظرإليها ثُمَّ أَرْسَلَتْ عَيْنَهَا تَبْكِي فَانْصَرَفَ عَنْهَا وَهُوَ يَقُولُ
وَمَا كَانَ حُبِّي عَنْ نَوَالٍ بَذَلْتِهِ ... وَلَيْسَ بِمُسْلِيَّ التَّجَهُمُ وَالْهَجْرُ
سِوَى أَنَّ دَائِي مِنْكِ دَاءُ مَوَدَّةٍ ... قَدِيمًا وَلَمْ يُمْزَجْ كَمَا تُمْزَجُ الْخَمْرُ
وَمَا أُنْسَ مِلْ أَشْيَاءِ لَا أَنْسَ دَمْعَهَا ... وَدَمْعَتَهَا حَتَّى يُغَيِّبُنِي الْقَبْرُ
فَبَيْنَمَا هُمَا عَلَى أَشَدِّ مَا كَانَا عَلَيْهِ مِنَ الْهَوَى وَالصَّبْوَةِ هَجَمَ عَلَيْهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَوْمَ الْغُمَيْصَاءِ فَأَخَذَ الْغُلامُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ خَالِدٍ فَأَرَادَ قَتْلَهُ
فَقَالَ لَهُ أَلْمِمْ بِي أَهْلَ تِلْكَ الْبُيُوتِ أَقْضِي إِلَيْهِنَّ حَاجَةً ثُمَّ افْعَلْ مَا بَدَا لَكَ
قَالَ فَأَقْبَلْتُ بِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى خَيْمَةٍ مِنْهَا فَقَالَ أَسْلِمِي حُبَيْشُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْعَيْشِ
فَأَجَابَتْهُ فَقَالَتْ سَلِمْتَ وَحَيَّاكَ اللَّهُ عَشْرًا وَتِسْعًا وِتْرًا وَثَمَانِيَةً تَتَرَى فَلَمْ أَرَ مِثْلَكَ يُقْتَلُ صَبْرًا
وَخَرَجَتْ تَشْتَدُّ وَعَلَيْهَا خِمَارٌ أَسْوَدُ قَدْ لاثَتْهُ عَلَى رَأْسِهَا وَكَأَنَّ وَجْهَهَا الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ
فَقَالَ حِينَ نَظَرَ إِلَيْهَا
أَرَيْتُكِ أَنْ طَالَبْتُكُمْ فَوَجَدْتُكُمْ ... بِبُرَزَةَ أَوْ أَدْرَكْتُكُمْ بِالْخَوَانِقِ
أَمَا كَانَ حَقًّا أَنْ يَنُولَ عَاشِقٌ ... تَكَلَّفَ إِدْلاجَ السُّرَى وَالْوَدَائِقِ
فَإِنِّي لَا سِرٌّ لَدَيَّ أَضَعْتُهُ ... وَلا رَاقَ عَيْنِي بَعْدَ وَجْهِكِ رَائِقُ
عَلَى أَنَّ مَا نَابَ الْعَشِيرَةَ شَاغِلٌ ... فَلا ذِكْرَ إِلا أَنْ يَكُونَ تَوَامُقُ
فَهَا أَنَا مَأْسُورٌ لَدَيْكِ مُكَبَّلٌ ... وَمَا إِنْ أَرَانِي بَعْدَهُ الْيَوْمَ نَاطِقُ