للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَوْله تَعَالَى: {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره} وَهُوَ تَنْبِيه بالأدنى على أَنه فِي غَيره أولى)

وَدلَالَة (إِلَى) و (حَتَّى) وأمثالهما على مُخَالفَة حكم مدخولها لما قبلهَا بطرِيق الْإِشَارَة لَا بطرِيق الْمَفْهُوم، وَالْمَفْهُوم إِنَّمَا يعْتَبر حَيْثُ لَا يظْهر للتخصيص وَجه سوى اخْتِصَاص الحكم، وَقد ظهر فِي آيَة {الْحر بِالْحرِّ} إِلَى آخِره وَجه للتخصيص سوى اخْتِصَاص الحكم، فَإِنَّهَا نزلت بَعْدَمَا تحاكم بَنو النَّضِير وَبَنُو قُرَيْظَة إِلَى رَسُول الله فِيمَا كَانَ بَينهم قبل أَن جَاءَ الْإِسْلَام من قتل الْحر من بني قُرَيْظَة بِالْعَبدِ من بني النَّضِير، وَالرجل مِنْهُم بِالْمَرْأَةِ مِنْهُم، وحرين مِنْهُم بَحر مِنْهُم فَنزلت، فَأَمرهمْ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَن يتساووا، فَلَا دلَالَة فِيهَا على أَن يقتل الْحر بِالْعَبدِ وَالذكر بِالْأُنْثَى، كَمَا لَا دلَالَة على عَكسه بل هِيَ مَنْسُوخَة بقوله تَعَالَى: {أَن النَّفس بِالنَّفسِ}

وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " الْمُسلمُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ " أَي: تتساوى وَلَا عِبْرَة للتفاضل فِي النُّفُوس وَإِلَّا لما قتل جمع بفرد لكنه يقتل بِالْإِجْمَاع، وَلَا مَفْهُوم للْخَارِج مخرج الْغَالِب كَمَا قَالَ ابْن الْحَاجِب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تكْرهُوا فَتَيَاتكُم على الْبغاء إِن أردن تَحَصُّنًا} إِنَّه خرج مخرج الْغَالِب من أَن يكون الْإِكْرَاه غَالِبا إِنَّمَا يكون عِنْد إِرَادَة التحصن

وَقَالَ ابْن كَمَال: الْمَفْهُوم مُعْتَبر فِي الرِّوَايَات والقيود، وَالْخلاف إِنَّمَا هُوَ فِي النُّصُوص وَأنكر أَبُو حنيفَة المفاهيم الْمُخَالفَة لمنطوقاتها كلهَا فَلم يحْتَج بِشَيْء مِنْهَا فِي كَلَام الشَّارِع فَقَط نَقله ابْن الْهمام فِي " تحريره " كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي أَوَائِل الْكتاب

وَمِمَّا يجب أَن يعلم فِي هَذَا الْمقَام أَن المُرَاد بِكَوْن الْمَفْهُوم مُعْتَبرا فِيمَا عدا كَلَام الله وَكَلَام نبيه سَوَاء كَانَ فِي الرِّوَايَات أَو غَيرهَا وَلَو كَانَ من أَدِلَّة الشَّرْع كأقوال الصَّحَابَة. وَالظَّاهِر أَن الْحَنَفِيَّة النافين للمفهوم فِي الْكتاب وَالسّنة إِنَّمَا مالوا إِلَى الِاعْتِبَار بِهِ فِي الرِّوَايَات لوجه وجيه وَفِي بعض الْمُعْتَبرَات: لَعَلَّ قَول الْعلمَاء: إِن التَّخْصِيص بِالذكر فِي الرِّوَايَات يُوجب نفي الحكم عَمَّا عدا الْمَذْكُور كَلَام من هَذَا الْقَبِيل، حَيْثُ يعلم أَنه لَو لم يكن للنَّفْي لما كَانَ للتخصيص فَائِدَة إِذْ الْكَلَام فِيمَا لم يدْرك فَائِدَة أُخْرَى بِخِلَاف كَلَام النَّبِي فَإِنَّهُ أُوتِيَ جَوَامِع الْكَلم، فَلَعَلَّهُ قصد فَائِدَة لم ندركها

أَلا ترى أَن الْخلف اسْتَفَادَ مِنْهُ أحكاما وفوائد لم يبلغ إِلَيْهَا السّلف، بِخِلَاف أَمر الرِّوَايَة فَإِنَّهُ لَا يَقع التَّفَاوُت فِيهِ

(وَالْحَاصِل أَن النزاع لَيْسَ إِلَّا فِيمَا لم يظْهر للتخصيص وَجه غير نفي الحكم عَمَّا عداهُ، وَلذَلِك تمسك بِهِ الْقَائِلُونَ بِالْمَفْهُومِ، وَقد أجَاب النافون عَنهُ بِأَن موجودات التَّخْصِيص وفوائده

<<  <   >  >>