ثم إن ما يؤيده معهود اللغة من المتنوعات المذكورة وما أشبهها هو المسلك العام الذي ينفذ منه المتكلمون إلى أغراضهم ومقاصدهم ولكن ليس شيء من هذه المتنوعات بالذي يحسن استعماله إطلاقا ولا شيء منها بالذي يسوء استعماله إطلاقا أي في كافة الأحوال وجميع المقامات بل لكل مقام مقال فما يجعل في موطن قد يقبح في موطن آخر وما يجب في مقام قد يمتنع في مقام آخر ولولا هذا لكان الوصول إلى الطرف الأعلى من البلاغة هينا ولأصبح كلام الناس لونا واحدا وطعما واحدا ولكن الأمر يرجع إلى حسن الاختيار من هذه المتنوعات بحسب ما يناسب الأحوال والمقامات فخطاب الأذكياء غير خطاب الأغبياء وموضوع العقائد التي يتحمس لها الناس غير موضوع القصص وميدان الجدل الصاخب غير مجلس التعليم الهادئ ولغة الوعد والتبشير غير لغة الوعيد والإنذار إلى غير ذلك مما يجعل اختيار المناسبات عسيرا ضرورة أن الإحاطة بجميع أحوال المخاطبين قد تكون متعسرة أو متعذرة ومما يجعل اللفظ الواحد في موضع من المواضع كأنه نجمة وضاءة لامعة وفي موضع آخر كأنه نكتة سوداء مظلمة.
ولعلمائنا أكرمهم الله أذواق مختلفة في استنباط الفروق الدقيقة بين استعمال حرف أو كلمة مكان حرف أو كلمة ومن السابقين في حلبة هذا الاستنباط الخطيب الإسكافي المتوفى سنة ٤١٢هـ في كتابه درة التنزيل وغرة التأويل وهاك مثالا منه يفيدنا فيما نحن فيه إذ يتحدث عن سر التعبير بالفاء في لفظ {كُلُوا} من قوله سبحانه في سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} وعن سر التعبير بالواو لا بالفاء في لفظ {كُلُوا} أيضا لكن من قوله سبحانه في سورة الأعراف: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} مع أن القصة واحدة ومدخول الحرف واحد قال رحمه الله الأصل أن كل فعل عطف عليه ما تعلق به تعلق الجواب بالابتداء وكان الأول مع الثاني بمعنى الشرط والجزاء فالأصل فيه عطف الثاني على الأول بالفاء ومنه {وَإِذْ قُلْنَا