للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال - رحمه الله-: " فإن النفوس لا تقبل الحق إلا بما تستعين به من حظوظها التي هي محتاجة إليها، فتكون تلك الحظوظ عبادة لله وطاعة له مع النية الصالحة. ألا ترى أن الأكل والشرب واللباس واجب على الإنسان؛ حتى لو اضطر إلى الميتة وجب عليه الأكل عند عامة العلماء، فإن لم يأكل حتى مات دخل النار؛ لأن العبادات لا تؤدى إلا بهذا، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" (١).

- لا بد من اللذات المباحة التي تعين على الطاعة:

قال - رحمه الله-: " وقد روى أبو حاتم البستي في صحيحه حديث أبي ذر رضي الله عنه الطويل عن النبي صلى الله عليه وسلم - الذي فيه من أنواع العلم والحكمة -، وفيه «أنه كان في حكمة آل داود عليه السلام: حق على العاقل أن تكون له أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها بأصحابه الذين يخبرونه بعيوبه ويحدثونه عن ذات نفسه، وساعة يخلو فيها بلذته فيما يحل ويجمل؛ فإن في هذه الساعة عونا على تلك الساعات». فبين أنه لا بد من اللذات المباحة الجميلة؛ فإنها تعين على تلك الأمور. ولهذا ذكر الفقهاء: أن العدالة هي الصلاح في الدين والمروءة؛ باستعمال ما يجمله ويزينه وتجنب ما يدنسه ويشينه. وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: "إني لأستجم نفسي بالشيء من الباطل لأستعين به على الحق". والله سبحانه إنما خلق اللذات والشهوات في الأصل لتمام مصلحة الخلق؛ فإنه بذلك يجتلبون ما ينفعهم كما خلق الغضب ليدفعوا به ما يضرهم وحرم من الشهوات ما يضر تناوله وذم من اقتصر عليها.

فأما من استعان بالمباح الجميل على الحق؛ فهذا من الأعمال الصالحة؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «في بضع أحدكم صدقة. قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أما يكون عليه وزر؟ قالوا: بلى. قال: فلم تحتسبون بالحرام ولا تحتسبون بالحلال»، وفي الصحيحين، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة حتى اللقمة تضعها في في امرأتك». والآثار في هذا كثيرة.

فالمؤمن إذا كانت له نية أتت على عامة أفعاله وكانت المباحات من صالح أعماله لصلاح قلبه ونيته، والمنافق - لفساد قلبه ونيته - يعاقب على ما يظهره من العبادات رياء؛ فإن في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب». وكما أن العقوبات


(١) السياسة الشرعية: ١٧٤.

<<  <   >  >>