من العسير تحديد مكان وزمان نشأة القرى المستقرة التي اعتمدت في حياتها على الزراعة واستئناس الحيوان "أى: ثورة الدور الحجري الحديث" التي تعد الجذور الأولى التي اعتمدت عليها الحضارات الإنسانية في تطورها إلى وقتنا الحاضر؛ وذلك لأن هذه النشأة كانت حقيرة غير واضحة المعالم، كما يتعذر تحديد موطنها الأصلي بدقة تامة؛ لأن أفكارًا مثل بذر البذور وتربية الحيوان يمكن انتشارها بسهولة ويسر إلى درجة يصعب معها تحديد مصدرها؛ إذ إنها في الواقع أيسر انتشارًا من انتشار المظاهر الحضارية الأخرى وخاصة المادية منها, مثل الأخذ باستخدام نوع من الآلات أو تغيير الأدوات المألوفة فسرعان ما تتقبل الشعوب -وإن اختلفت تقاليدها- ثورة مثل هذه "ثورة الدور الحجري الحديث" إذا ما كانت البيئة التي تعيش فيها ملائمة والمناخ مناسبًا، ويصبح من اليسير عليها أن تكيف حضارتها تبعًا لذلك.
وعلى هذا فقد اختلف الباحثون في أي الأماكن تعد أقدم مراكز الزراعة المصحوبة باستئناس الحيوان، ومنهم من ذهب إلى أنها الحبشة، ومنهم من رأى أنها جنوب غربي آسيا، وتحمست غالبيتها لهذا الرأي الأخير؛ حيث اكتشفت في هذه المنطقة آثار أنواع برية من النباتات والحيوانات التي تعد أسلافًا للحبوب والحيوانات التي تعيش فيها الآن؛ بينما لم يعثر في أفريقيا على ما يناظر هذه الأنواع البرية؛ غير أن العثور على هذه الآثار في منطقة دون غيرها لا يكفي لحل المشكلة؛ إذ إن الأبحاث الأثرية ما زالت غير كافية في كثير من بقاع العالم بصفة عامة.