ومع هذا فإننا إذا ما تأملنا ظروف العالم القديم في الأزمان السحيقة؛ لوجدنا أن العروض المدارية كانت أحسن جهاته ملاءمةً في مناخها وبيئاتها لنمو هذه الحبوب والحيوانات وخاصة في الأدوار الحجرية؛ حيث إنها لم تتعرض لذبذبات مناخية شديدة التطرف؛ ولذا فإن أقدم مراكز ثورة الدور الحجري الحديث لا تخرج عن نطاق هذه العروض, ولا تتمثل جنوب خط الاستواء في العالم القديم إلا في بعض جهات أفريقيا وأستراليا؛ لأن هذه الجهات بحكم تضاريسها وموقعها أبعد من أن تكون أقدم مراكز تلك الثورة، كما أن توصل هذه الجهات إلى أي مظهر حضاري لا يحتم انتقاله منها إلى غيرها أو أن يؤثر فيها بالضرورة. أما في شمال خط الاستواء فإن الجهات التي تقع في العروض المدارية أكثر احتمالًا لأن تكون أقدم مراكز هذه الثورة، وهذه الجهات تتمثل في النطاق الممتد عبر شمال أفريقيا وشبه جزيرة العرب وشمال الهند والهند الصينية أي: بين المحيط الأطلنطي غربًا والمحيط الهادي شرقًا بما في ذلك من صحارَى واسعة ووديان أنهار؛ إذ إن هذا النطاق لم يكن على حالته الراهنة من الجفاف والجدب؛ بل كان ينعم في العصور السحيقة بكمية من الرطوبة والتساقط هيأت للجماعات البشرية التي انتشرت فيه حياة نباتية وحيوانية ملائمة؛ لأن عصور تقدم الجليد إلى العروض المعتدلة والفترات الدفيئة التي تخللتها كانت تقابلها أدوار مطيرة في العروض المدارية, وأن فترات تراجع الجليد الباردة كانت تقابلها قلة في التساقط في هذه العروض كما سبق أن أشرنا١. ومع أن بوادر الجفاف أخذت تحل فيه ابتداء من نهاية الدور الحجري القديم؛ إلا أن هذا الجفاف لم يصل إلى ذروته من الشدة إلا في العصر الروماني، وعلى هذا يمكن القول بأن صحارَى هذا النطاق ظلت تنعم بمناخ ملائم إلى أوائل العصر التاريخي على الأقل، وبالرغم من انتشار الإنسان في أرجاء هذا النطاق الواسعة إلا أنه كان يحرص على أن