يظل قريبًا من مجاري المياه التي كانت تتمثل في الأنهار العظيمة الحالية وكثير من أودية الصحراء التي أصبحت جافة الآن، وحينما أخذ التساقط في القلة وبدأ الإنسان يشعر بوطأة الجفاف صار لا يبعد كثيرًا في إقامته عن المجاري المائية الدائمة والأنهار العظيمة مثل نهر النيل ونهري دجلة والفرات وأنهار سورية وآسيا الصغرى وغيرها. ونظرًا لأن تلك الأنهار لم تعمق مجاريها إلا بعد وقت طويل, ولأن كمية التساقط كانت أكبر منها الآن؛ فإن السهول الفيضية لتلك الأنهار كانت أكثر ارتفاعًا وأكثر امتدادًا على الجانبين، وكلما عمق النهر مجراه وقل التساقط كلما أخذت سهوله الفيضية تنخفض ويقل امتدادها أي: أن مياهه كانت تنحسر عن جانبيه تدريجيًا, وكان الإنسان بالطبع يتتبعها دائمًا؛ حيث يظل يهبط من الأماكن المرتفعة أو الهضاب التي عاش فيها ليقيم على جانبي النهر تاركًا وراءه مخلفاته وبعض آثاره. وهكذا نجد أن أقدم ما عثر عليه من الآثار في مثل هذه الحالة وجدت في مناطق أبعد في قلب الصحراء ومنسوب طبقاتها أكثر ارتفاعًا من تلك التي وجدت بها الآثار الأحدث منها، أي: أن أقرب الآثار في تاريخها إلى عصرنا الحالي تكون في طبقات أقرب إلى الوادي وهي في منسوبها أقل ارتفاعًا من تلك التي ترجع إلى عهود أقدم، وعلى ذلك تكون آثار الحضارات المختلفة في مدرجات على جانبي النهر، ويكون ترتيبها عكسيًا بالنسبة لترتيب الطبقات التي توجد بها آثار في أماكن بعيدة عن وديان الأنهار؛ إذ إن أقدم الآثار في هذه الأماكن توجد في أسفل الطبقات وتعلوها الأحدث منها, وهكذا وفق ترتيبها الزمني، ومن خير الأمثلة للمدرجات النهرية التي توجد بها آثار الحضارات المختلفة في ترتيبها العكسي مدرجات النيل "شكل ٥".
ومن البديهي أن مناطق العروض المدارية شمال خط الاستواء في العالم القديم لم تتطور في حضارتها بسرعة واحدة ولم تؤثر جميعها في حضارت غيرها أو تتأثر