قال: وكان أبي يأكل في الديوان وينام فيه ويعمل عشياً الحسبانات فلما جلسنا نأكل لم أذكره إلى أن كاد الطعام ينقضي، فقال لي هو مبتدئاً: يا بني شغلك الطعام عما قلت لك تذكرني به؟ فقلت: لا، ولكن أردت أن يكون ذلك على خلوة فقال: هذا وقت خلوة ثم قال: ألست أنكرت والحاضرون قيامي لأحمد بن أبي خالد في دخوله وخروجه وما عملته معه؟ فقلت: بلى قال: كان هذا يتقلد مصر سنين، فوليت أعمالها وصرفته عنها، وقد كانت مدته فيها طالت فتتبعته، فرأيت آثار رجل لم أر أجمل آثاراً منه، ولا أعف عن أموال السلطان والرعية، ولا رأيت رعية لعامل أشكر من رعيته له، وكان الحسين الخادم المعروف بعرق الموت صاحب البريد بمصر أصدق الناس له مع هذا، وكان من أبغض الناس " إلي " وأشدهم اضطراباً في أخلاقه، فلم أتعلق عليه بحجة، ووجدته قد أخر رفع الحساب لسنة متقدمة وسنته التي هو فيها ولم يستتمها لصرفي له عنها، ولم ينفذه لي الديوان فسمته أن يحط من الدخل ويزيد من النفقات والأرزاق، ويكسر من البقايا في كل سنة مائة ألف دينار لآخذها لنفسي، فامتنع من ذلك، فأغلظت له وتوعدته، ونزلت معه إلى مائة ألف دينار واحدة للسنتين وحلفت له أيماناً مغلظة مؤكدة أني لا أقنع منه بأقل منها، فأقام على امتناعه وقال: لا أخون لنفسي فكيف أخون لغيري وأزيل ما قام به جاهي من العفاف؟ فحبسته وقيدته فلم يجب، وأقام مقيداً في الحبس شهوراً. وكتب عرق الموت صاحب البريد الخبر إلى المتوكل، وحلف له أن أموال مصر لا تفي بنفقتي ومؤنتي، ويصف أحمد بن أبي خالد ويذكر ميل الرعية إليه وعفته، فأرسل المتوكل بتوليته فأنا ذات يوم على المائدة آكل إذ وردت علي رقعة أحمد بن أبي خالد يسألني استدعاءه المهم يلقيه إلي فلم أشك أنه قد استضر بالحبس والقيد، وقد عزم على الاستجابة لمرادي، فلما غسلت يدي دعوته فاستخلاني فأخليته، فقال: أما آن لك يا سيدي أن ترق لي مما أنا فيه من غير ذنب إليك " ولا جرم ولا قديم ذحل " ولا عداوة؟ فقلت أنت اخترت لنفسك ذلك، وقد سمعت يميني وليس منها مخرج، فاستجب لما أريده منك " واخرج " فأخذ يستعطفني " ويخدمني ويخدعني "" فجاءني ضد ما قدرته فيه " فغاظني فشتمته وقلت له هذا الأمر المهم الذي ذكرت لي في رقعتك أنك أردت إلقاءه إلي هو أن تستعطفني وتستجير بي وتخدعني؟ فقال: يا سيدي وليس الآن عندك غير هذا؟ فقلت: لا فقال: إذا كان ليس عندك غير هذا، فاقرأ يا سيدي هذا، واخرج إلي كتاباً لطيفاً مختوماً في ربع قرطاس ففضضته فإذا هو بخط المتوكل الذي أعرفه " يأمرني فيه " بالانصراف وتسليم ما أتولاه إلى أحمد بن أبي خالد والخروج إليه مما يلزمني ورفع الحساب إليه والامتثال لأمره وطاعته والمسير عن مصر بعد ذلك فورد علي أقبح مورد لقرب عهد الرجل بشتمي له والإساءة إليه، وإنه في الحال تحت حديدي ومكارهي، فأمسكت مبهوتاً، ولم ألبث أن دخل أمير مصر إذ ذاك في أصحابه وغلمانه فوكل بداري وجميع ما أملكه وأصحابي وغلماني وجهابذتي وكتابي. وجعلت أزحف من الصدر حتى صرت بين يدي أحمد بن أبي خالد، ولست أستطيع القيام وهو في قيوده بعد. فدعا أمير البلد بحداد فحل قيوده، فمددت رجلاي ليوضع فيها القيد، فقال لي: يا أبا أيوب ضم اقدامك، فوثب قائماً ثم قال لي: يا أبا أيوب: أنت قريب عهد بعمالة هذا البلد، ولا منزل لك فيه ولا صديق، ومعك حرم وحاشية، وليس يسعك إلا هذا الدار، وكانت دار العمالة، وأما أنا فأجد عدة مواضع " غيرها " وليس لي كبير حاشية، ومن نكبة وقيد خرجت، فأقم مكانك، وخرج عني وصرف التوكيل عني وعن الدار، وأخذ كتابي واشياعي إليه، فلما انصرف قلت لغلماني: هذا الذي أراه في النوم؟ انظروا من وكل بنا فقالوا: ما وكل بنا أحداً، فعجبت من ذلك شديداً، وما صليت العصر حتى عاد إلي من كان حمله معه من المتصرفين والكتاب والجهابذة مطلقين وقالوا: أخذ خطوطنا برفع الحساب، وأمرنا بالملازمة وأطلقنا، فازداد عجبي، فلما كان من غد باكرتي مسلماً ورحت إليه في عشية ذلك اليوم، فأقمت ثلاثين يوماً أن سبقني إلى المجيء وإلا رحت إليه، وإن راح إلي وإلا باكرته، وكل يوم تجيئني هداياه " وألطافه " من الثلج والفاكهة والحيوان والحلوى والطيب، فلما كان بعد ثلاثين يوماً جاءني فقال لي: قد عشقت مصر يا أبا أيوب، والله ما هي طيبة الهواء ولا عذية، وإنما تطيب لغير