وملح ما سطر ومستحسن ما ذكر ما حدث به رسول ملك الخزر وهو عند الفضل بن سهل عن أُخت ملكهم واسمها خاتون. قال: أصابتنا سنة احتدم شواظها علينا بحرارة المصائب وصنوف الآفات ففزع الناس إلى الملك فلم يدر ما يجيبهم به. فقالت له خاتون: أيها الملك إن الحزم علق لا يخلق جديده، وسبب لا يمتهن عزيزه وهو دليل الملك على استصلاح مملكته، وزاجره عن استفسادها. وقد فزعت رعيتك إليك لفرط العجز عن الالتجاء إلى من لا تزيده الإساءة إلى خلقه عزاً، ولا ينقصه العود إليهم بالإحسان ملكاً، وما أحد أولى بحفظ الوصية من الوصي، ولا بركوب الدلالة من الدال، ولا بحسن الرعاية من الراعي، ولم نزل في نقمة لم تغيرها نقمة، وفي رضا لم تكدره سخطة، إلى أن جرى القدر بما عمي عنه البصر، وذهب عنه الحذر، فسلب الموهوب، والسالب هو الواهب. فعد إليه بشكر النعم وعذ به من فظيع النقم، فمتى تنسه ينسك، ولا تجعلن الحياء من التذلل للمعز المذل شركاً بينك وبين رعيتك فتستحق مذموم العاقبة، ولكن مرهم ونفسك بصرف القلوب إلى الإقرار له بكنه القدرة وبتذلل الألسن في الدعاء بمحض الشكر له، فإن الملك ربما عاقب عبده ليرجعه عن شيء فعل إلى صالح عمل، وليتبعه على ذاك الشكر لما يحرز به فضلاً آخر. قال: فأمرهم الملك أن تقوم فيهم فتنذرهم بهذا الكلام، ففعلت. " فتلقوا وعظها بالقبول، ورجعوا عن باب الملك الأدنى إلى باب الملك الأعلى. وقد علم الله منهم قبول الوعظ والأمر والنهي، فحال عليهم الحول، وما أحد منهم مفتقر لنعمة كان عليها، وتواترت عليهم الزيادات بجميل الصنع ولله الحمد والشكر.
[حكاية]
قال أبو بكر " الهذلي " أخبرنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه عبد الملك الأصمعي قال: قدم وفد على هشام بن عبد الملك وفيهم رجل من قريش يقال له إسماعيل بن أبي الجهم، وكان أكبرهم سناً؛ وأفضلهم رأياً وحكماً، فقام متوكئاً على عصا، فقال: يا أمير المؤمنين إن خطباء قريش قد قالت فأطنبت وأثنت عليك فأحسنت، ووالله ما بلغ قائلهم قدرك ولا أحصى مثنيهم فضلك، أفتأذن لي في الكلام؟ قال: تكلم قال: أفأوجز أم أطنب؟ قال: بل أوجز. قال: تولاك الله يا أمير المؤمنين بالحسنى وزينك بالتقوى، وجمع لك بين الآخرة والأولى، إن لي حوائج أفأذكرها؟ قال: نعم: قال: كبرت سني فضعفت قوتي، واشتدت حاجتي، فإن رأى أمير المؤمنين أن يجبر كسري، وينفي فقري فليفعل فقال: يا ابن الجهم، وما يجبر كسرك وينفي فقرك؟ قال: ألف دينار وألف دينار وألف دينار، قال: هيهات يا ابن أبي الجهم بيت المال لا يحتمل هذا، قال: كأنك آليت يا أمير المؤمنين أن لا تقضي لي حاجة في مقامي هذا، فقال هشام: فألف دينار لماذا؟ قال: أقضي بها ديناً قد حنا ظهري وأرهقني حمله. قال: نعم المسالك سلكتها، ديناً قضيت؛ وأمانة أديت، وألف دينار لماذا؟ قال: أزوج بها من أدرك من ولدي، فأشد بهم عضدي، ويكثر بهم عددي. قال: لا بأس غضضت طرفاً، وحصنت فرجاً، وأكثرت نسلاً، وألف دينار لماذا؟ قال: أشتري بها أرضاً فأعود بفضلها على ولدي، وبفضل فضلها على ذوي قربتي، قال: ولا بأس أردت ذخراً، ورجوت أجراً، ووصلت رحماً، قد أمرنا لك بها. قال: المحمود الله على ذلك، وجزاك الله يا أمير المؤمنين والرحم خيراً. فقال هشام: تالله ما رأيت رجلاً ألطف في سؤال، ولا أرفق في مقال منه، هكذا فليكن القرشي.