فجعلت الجارية تصيح: هذا والله الغناء لا ما نحن فيه، وشرب القوم وبقي في صاحب المنزل مسكة لجودة شربه، فسكر القوم وغلبوا على أرواحهم، فأمر غلمانه بحفظهم وإيصالهم إلى منازلهم، فانصرفوا وخلوت معه، وشرب أقداحاً، ثم قال: يا سيدي ذهب ما مضى من عمري هدراً إذ لم أعرف مثلك، ولم أحاضر رئيساً يشبهك، فبالله يا مولاي من أنت لأعرف نديمي؟ فأخذت أوري عليه، وهو يقسم علي إلى أن أعلمته من أنا على الحقيقة، فوثب قائماً على قدميه وقال: لقد عجبت أن يكون هذا الفضل إلا لمثلك، ولقد أسدى إلي الزمان يداً لا أقوم بشكرها، ومتى طمعت بأن تزورني الخلافة في منزلي، وتنادمني ليلتي أجمع! ما هذا إلا في المنام، فلا أتممت ليلتي إلا قائماً بين يديك، إذ كنت أحقر من أن أجالس الخلافة، فأقسمت عليه أن اجلس فجلس، ثم أخذ يسألني: ما السبب في حضوري عنده، بألطف سؤال وأرق معنى، فأخبرته يا أمير المؤمنين القصة من أولها إلى آخرها وما سترت منها شيئاً، ثم قلت: أما الطعام فقد نلت منه بغيتي، فقال: والكف والمعصم تنال إن شاء الله، ثم قال: يا فلانة قولي لفلانة، جارية له، تنزل، ثم جعل يستدعي واحدة واحدة يعرضها علي، وأنا لا أرى صاحبتي: إلى أن قال: والله ما بقي غير أمي وأختي، ووالله لينزلن، فعجبت من كرمه وسعة صدره، فقلت: جعلت فداك أبدأ بالأخت قبل الأم، فإني أحتشم أن أنظر إلى كف والدتك قال: حباً وكرامة، ثم نزلت أخته فأراني كفها فإذا هي التي رأيتها فقلت: حسبك، هذه الجارية، فأمر غلمانه لوقته باستدعاء عشرة مشايخ سماهم، ثم قام فأخرج بدرتين فيهما عشرون ألف درهم، وحضر المشايخ فقال لهم: هذا سيدي إبراهيم بن المهدي يخطب إلي أختي فلانة، وأشهدكم أني قد زوجتها له، وأمهرتها عنه عشرة آلاف درهم، فقلت: قد رضيت وقبلت النكاح، فشهدوا علينا، ثم دفع البدرة الواحدة إلى أخته، والأخرى فرقها على المشايخ، ثم قال: أعذرونا فهو ما حضر على مثل هذه الحال، فشكروا ودعوا له وانصرفوا ثم قال: يا سيدي أمهد لك مهداً في بعض البيوت فتنام مع أهلك؟ فاحشمني ما رأيت من كرمه، وتذممت أن أخلوا بها في داره، فقلت: بل أحضر عمارية فاحملها إلى منزلي فقال: ما شئت، فأحضرت عمارية وحملتها إلى منزلي، فوحقك يا أمير المؤمنين، لقد حمل إلي من الجهاز ما ضاقت عنه بيوتنا على سعتها، فأولدتها هذا الغلام القائم بين يدي أمير المؤمنين.
فعجب المأمون من كرم هذا الرجل فقال: لله دره ما سمعت قط بمثلها فعلة، ثم أطلق الطفيلي وأجازه، وأمر إبراهيم بإحضار الرجل ليشاهده، فأحضر بين يديه فاستنطقه فأعجب به وصار من جملة خواصه ومحاضريه.