حدث حماد بن إسحاق عن أبيه قال: دخلت إلى الفضل بين الربيع وقد بلغ الرشيد يحي بن عبد الله بن الحسن وقد كان أمره بقتله فلم يظهر له أنه بلغه إطلاقه إياه، وسأله عن خبره على قتله؟ فقال: لا، فقال له: أين هو، قال: أطلقته، قال: ولم؟ قال: لأنه سألني بحق الله تعالى ورسوله وقرابته منه ومنك، وحلف لي أنه لا يحدث حدثاً، وإنه يجيئني متى طلبته، فأطرق ساعة ثم قال له: امض بنفسك في طلبه حتى تجيئني به وأخرج الساعة، فخرج. قال إسحاق: فدخلت إليه مهنئاً بالسلامة، فقلت له: ما رأيت أثبت من جأشك ولا أصح من رأيك فيما جرى وأنت والله كما قال أشجع:
بديهته وفكرته سواء ... إذا ما نابه الخطب الكبير
وأحزم ما يكون الدهر رأياً ... إذا عيي المشاور والمشير
وصدر فيه للهم اتساع ... إذا ضاقت من الهم الصدور
فقال الفضل: انظروا كم أعطي أشجع على هذه القصيدة فاحملوا إلى أبي محمد مثله. قال فوجد قد أخذ ثلاثين ألف درهم فحملت إلي.
[حكاية]
قال أبو الفرج الأصبهاني: حدثني بن محمد بن الجعد ومحمد بن يحيى قالا: حدثنا محمد بن زكريا العلاني قال: حدثنا ابن عائشة قال: حج هشام بن عبد الملك في خلافة الوليد أخيه ومعه أهل الشام فجهد أن يستلم الحجر فلم يقدر من ازدحام الناس، فنصب له منبر فجلس عليه ينظر إلى الناس، فأقبل زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما، وهو أحسن الناس وجهاً، وأنظفهم ثوباً؛ وأطيبهم رائحة، فطاف بالبيت فلما بلغ الحجر تنحى الناس كلهم له وأخلوا الجحر ليستلمه، هيبة له وإجلالاً، فغاظ ذلك هشاماً وبلغ منه، فقال رجل لهشام: من هذا أصلح الله الأمير؟ قال: لا أعرفه، وكان به عارفاً، ولكنه خاف أن يرغب فيه أهل الشام ويسمعوا منه. فقال الفرزدق، وكان لذلك كله حاضراً: أنا أعرفه فسلني يا شامي من هو، قال: ومن هو؟ قال:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النفي الطاهر العلم
" بكفه خيزران ريحه عبق ... بكف أروع في عرنينه شمم
يغضي حياء ويغضى من مهابته ... وما يكلم إلا حين يبتسم "
إذا رأته قريش قال قائلها: ... إلى مكارم هذا ينسب الكرم
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
فليس قولك من هذا بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم
أي الخلائق ليست في رقابهم ... لأولية هذا أو له نعم
من يعرف الله يعرف أولية ذا ... فالدين من بيت هذا ناله الأمم
فحبسه هشام فقال الفرزدق:
أيحبسني بين المدينة والتي ... إليها قلوب الناس يهوي منيبها
يقلب رأساً لم يكن رأس سيد ... وعيناً له حولاء تبدو عيوبها
فبعث هشام إليه فأخرجه خشية لسانه. ووجه إليه علي بن الحسين عشرة آلاف درهم وقال أعذرنا يا أبا فراس فلو كان عندنا في هذا الوقت أكثر منها لوصلناك به فردها وقال: ما قلت ما كان إلا لله، وما كنت لأرزأك عليه شيئاً، فقال له علي بن الحسين: قد رأى الله مكانك فشكرك، ولكنا أهل بيت إذا أنفذنا شيئاً ما نرجع فيه، وأقسم عليه فقبلها.
[حكاية]
حدث أحمد بن يحيى المكي " قال كان إسحاق الموصلي يكثر مديح البرامكة ويطنب في الثناء عليهم، فحضر ذات يوم مجلس الفضل بن الربيع فأجرى ذكر البرامكة، وكان يغيظ الفضل ويبلغ منه كل مبلغ، فقال بعض من حضر لإسحاق: أما تنفك من ذكر هؤلاء القوم وتقلع عن ذلك، ولك في الثناء على الوزير ما تبلغ به عنده أعلى الرتب، وتحل من نفسه عليه أرفع محل، فأمسك الفضل عن الكلام إعجاباً بما خوطب به إسحاق. فقال اسحق: أما البرامكة وملازمتي لهم وحبي فيهم وثنائي عليهم فأشهر من أن أجحده، وذلك والله أقل ما يستحقونه مني، ثم أقبل على الفضل وقد أغاظه مدحه لهم. فقال له: اسمع مني شيئاً مما فعلوه بي، ليس هو بكبير من صنائعهم عندي ولا عند أبي قبلي، فإن وجهت لي في ذلك عذراً وإلا فلم.