كنت في ابتداء أمري نازلاً مع أبي في داره، وكان لا يزال يجري من غلماني وغلمانه وجواري وجواريه الخصومة، كما يجري بين هذه الطبقات، فيشكونهم إليه، فأتبين الضجر والتنكر في وجهه، فاستأجرت داراً بقربه وانتقلت إليها أنا وجواري وغلماني. وكانت داراً واسعة فلم أرض ما عندي من الآلة لها، ولا لمن يدخل إلي من أخواني أن يروا مثله عندي. ففكرت في ذلك وكيف أصنع فيه فزاد فكري إلى أن خطر ببالي قبح الأحدوثة من نزول مثلي في دار بأجرة، وإني لا آمن في وقت أن يستأذن علي وعندي من احتشمه ولا يعلم حالي، فيقال: صاحب دارك يطلب أجرة الدار فضاق بذلك صدري ضيقاً شديداً حتى جاوز الحد فأمرت غلماني أن يسرجوا لي حماراً كان عندي لأمضي إلى الصحراء أتفرج فيها مما دخل قلبي فأسرج لي، ولبست رداء ونعلاً وركبت، فأفضى بي المسير وأنا مفكر لا أميز الطريق التي أسلك فيها حتى هجم بي على باب يحيى بن خالد فوثب غلمانه إلي وقالوا أين هذه الطريق؟ فقلت: إلى الوزير أعزه الله، فاستأذنوا لي في الدخول فدخلت، وبقيت خجلاً، قد وقعت في أمرين قبيحين، إن دخلت عليه برداء ونعل، وأعلمته أني قصدته في تلك الحال كان سوء أدب، وإن قلت له أني كنت مجازاً ولم أقصدك فجعلتك طريقاً كان قبيحاً، ثم عزمت على صدقه، فلما رآني تبسم فقال: ما هذا الزي يا أبا محمد احتسبنا لك بالبر والقصد والتفقد ثم علمنا أنك جعلتنا طريقاً فقلت: لا والله أيد الله الوزير ولكني أصدقك قال: هات، فأخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها فقال: هذا حق مستو " كذا " افهذا شغل قلبك؟ قلت: إي والله، وزاد فقال: لا تشغل قلبك بهذا، يا غلام ردوا حماره وهاتوا له خلعة، فجاءوني بخلعة تامة من ثيابه فلبستها، ودعا بالطعام فأكلت، ووضع النبيذ فشربت وشرب وغنيته، ودعا في وسط ذلك بدواة وكتب أربع رقاع ظننت أن بعضها توقيع لي بجائزة، ثم دعا بعض وكلائه فدفع إليه الرقاع، وساره بشيء، فزاد طمعي في الجائزة، ومضى الرجل وجلسنا نشرب وأنا أنتظر فلا أرى شيئاً إلا الغنيمة. ثم اتكأ يحيى بن خالد فنام، وقمت من عنده وأنا منكسر خائب، فخرجت فقدم إلي حماري فركبته وسرت، فلما تجاوزت الدار قال لي غلامي: إلى أين تمضي؟ قلت: إلى الدار، قال: قد والله بيعت الدار وابتيع الدرب كله، وأشهد على أصحابها، ووزن الثمن، والمشتري جالس على بابك ينتظرك ليعرفك وأظنه ابتاع ذلك للسلطان، لأني رأيت الأمر في عجلته واستحثاثه أمراً سلطانياً، فوقعت من ذلك في أمر لم يكن في حسابي، وسرت وأنا لا أدري ما أعمل، فلما نزلت على باب داري إذا بالوكيل الذي ساره يحيى قد قام إلي فقال: أدخل أيدك الله دارك، حتى أدخل في أمر أحتاج فيه إلى مخاطبتك، فطابت نفسي فدخلت ودخل إلي فأقراني توقيع يحيى يطلق لأبي محمد إسحاق مائة ألف درهم يبتاع بها داره، وجميع ما يجاورها ويلاصقها، والتوقيع الثاني إلى ابنه الفضل ":قد أمرت لأبي إسحاق بمائة ألف درهم يبتاع بها داره، فأطلق له مائة ألف أخرى لينفقها على إصلاح الدار كما يريد وبنائها كما يشتهي " والتوقيع الثالث إلى ابنه جعفر " قد أمرت لأبي محمد إسحاق بمائة ألف يبتاع له بها منزلاً يسكنه، وأمر له أخوك بمائة ألف درهم ينفقها على بنائها ومرمتها على ما يريده: فأطلق له مائة ألف درهم ليبتاع له بها فرشاً لمنزله " والتوقيع الرابع إلى محمد " قد أمرت وأخواك لأبي محمد إسحاق بثلاثمائة ألف درهم لمنزل يبتاعه، ونفقة ينفقها عليه، وفرش يتبدله فيه فمر له أنت بمائة ألف درهم يصرفها في سائر نفقته " وقال لي الوكيل: قد حملت المال واشتريت كل شيء جاورك بسبعين ألف درهم وهذه الكتب بالابتياعات باسمي والإقرار لك، وهذا المال، بورك لك فيه، فأقبضه فقبضته، وأصبحت أحسن حالاً من أبي في منزلي وسائر فرشي وآلتي فلا والله ما هذا من أكبر شيء فعلوه بي أفألام على شكرهم؟