قال: فقلت يا عيينة إني وردت " الحجاز " بمال جزيل " وطرف وتحف وقماش ومتاع " أريد به أهل الستر، ووالله لأبذلنه أمامك، حتى أعطيك الرضا وفوق الرضا، قم بنا إلى مجلس الأنصار، فقمنا حتى أشرفنا على ملأ منهم، فسلمت فأحسنوا الرد ثم قلت: أيها الملأ ما تقولون في عيينة وأبيه؟ قالوا: خير وابن خير من سادات العرب قلت: إنه قد رمي بداهية من الهوى، وقد نزل بفؤاده رسيس الجوى، وما أريد منكم إلا المعونة إلى السماوة، فقالوا: سمعاً وطاعة، فربكنا وركب القوم معنا حتى أشرفنا على منازل بني سليم بأرجاء خفان من السماوة فقلنا: أين منزل السيد الغطريف قالوا: أمامكم، فسرنا وأعلم الغطريف بنا فخرج مبادراً فاستقبلنا وقال: حييتم بالإكرام، وحبيتم بأفضل الأنعام. فقلنا وأنت حييت وحبيت، إننا لك أضياف قال: نزلتم أفضل منزل، وحللتم أكرم معقل. ثم قال: يا معشر العبيد أنزلوا القوم، ففرشت لنا الأنطاع والنمارق " والزرابي " فنزلنا ثم ذبحت الذبائح، ونحرت النحائر فقلنا:" يا سيد القوم " لسنا بذائقين لك طعاماً حتى تقضي حاجتنا، وتردنا بمسرتنا، قال: وما حاجتكم؟ قلنا: نخطب عقيلتك الكريمة لعيينة بن الحباب بن المنذر الطيب العنصر، الحالي المفخر. فقال: يا أخوتاه إن التي تخطبونها أمرها إلى نفسها، وها أنا أدخل أخبرها. ثم نهض مغضباً فدخل على ريا وكانت كاسمها فقالت: يا أبي ما لي أرى الغضب بيناً عليك؟ فقال لها: ورد الأنصار يخطبونك مني فقالت: سادة كرام، أبطال عظام، استغفر لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلمن الخطبة منهم؟ قال لفتى يعرف بعيينة الحباب قالت: تالله لقد سمعت عن عيينة هذا، إنه يفي بما وعد، ويدرك إذا قصد، ويأكل ما وجد، ولا يسأل عما فقد، فقال: أقسم لا أزوجنك أبداً به، فقد نمي إلي بعض حديثك معه، فقالت: ما كان ذلك، ولكن إذا أقسمت فإن الأنصار لايردون رداً قبيحاً، فأحسن لهم الرد قال: بأي شيء قالت: أغلظ لهم في المهر فإنهم يرجعون فلا يجيبون قال: ما أحسن ما قلت، ثم خرج مبادراً فقال: إن فتاة الحي أجابت ولكن أريد لها مهر مثلها، فمن القائم به؟ قال عبد الله بن المعتمر: أنا قل ما شئت، قال: أريد ألف مثقال من الذهب الأحمر، قال: لك ذلك، قال: وأريد خمسة آلاف درهم من ضرب هجر قال: لك ذلك، قال: وأريد مائة ثوب من الابراد والحبر، قال: لك ذلك. قال: وأريد عشرين ثوباً من الوشي المطير قال: لك ذلك، قال: وأريد عقداً من الجوهر، قال: لك ذلك. قال: وأريد خمسة أكرشة من العنبر قال: لك ذلك. قال: وأريد عشرين نافجة من المسك الأذفر قال: لك ذلك. فهل أجبت؟ قال: أجل.
قال فأنفذ عبد الله بن المعتمر نفراً من الأنصار إلى المدينة فأتوا بجميع ما ضمنه، وذبحت الغنم والنعم، واجتمع الناس لأكل الطعام، قال: فأقمنا أربعين يوماً على هذه الحال، ثم قال: خذوا فتاتكم وانصرفوا مصاحبين. ثم حملها في هودج وجهزها بثلاثين راحلة عليها من التحف والطرف شيء كثير، وودعنا وسرنا حتى إذا بقي بيننا وبين المدينة مرحلة واحدة خرجت علينا خيل تريد الإغارة، وأحسب أنها بني سليم فحمل عليها عيينة بن الحباب فقتل منها عدة رجال، وانحرف نحونا راجعاً وبه طعنة تفور دماً، ثم سقط إلى الأرض، وأتتنا النصرة من سكان الأرض فطردوا عن الخيل، وقد قضى عيينة نحبه، فقلنا: واعيينتاه، فسمعتنا الجارية فألقت نفسها عليه، وجعلت تترشفه وتصيح بحرقة وتقول:
تصبرت لا أني صبرت وإنما ... أعلل نفسي أنها بك لاحقة
ولو أنصفت نفسي لكانت إلى الردى ... أمامك من دون البرية سابقة
فما أحد بعدي وبعدك منصف ... خليلاً ولا نفس لنفس بصادقة
ثم شهقت شهقة واحدة فقضت نحبها، فاحتفرنا لهما جدثاً واحداً وواريناهما فيه، ورجعت إلى ديار قومي وأقمت سبع سنين ثم عدت إلى الحجاز، فوردت إلى الزيارة فقلت: والله لأعودن إلى قبر عيينة أزوره فأتيت على القبر فإذا عليه شجرة نابتة عليها عصائب حمر وصفر وخضر، فقلت لأرباب المنزل: ما يقال لهذه الشجرة؟ قالوا: شجرة العروسين، فأقمت عند القبر يوماً وليلة، ثم انصرفت فكان آخر العهد به والسلام.