أعص العواذل وارم النبل عن عرض ... بذي سبيب يقاسي ليلة خببا
حتى تمول مالاً أو يقال فتى ... لاقى التي تشعب الفتيان فانشعبا
" لا خير عند فتىً أودت مروءته ... يعطي المقادة من لا يحسن الجنبا "
قال: وكذلك قال الشاعر يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم قال: سأعمل بما قال سلام عليكم وولى بفرسه وذهب، فلما غاب عن عين عبد الملك وتلاحق به عسكره، تقدم في طلب الرجل فلم يدركه، ثم ضرب الدهر ضرباته، فورد على عبد الملك أن رجلاً من العرب خرج في بعض النواحي وانضاف إليه جماعة وأن مالاً حمل إلى عبد الملك فخرج عليه الطريق فأخذه فأنفذ إليه عبد الملك جيشاً فكسره، ثم لم تطل الأيام حتى استفحل أمره واشتدت شوكته، فكتب إليه عبد الملك يستخبره ما دعاه إلى الخروج عن الطاعة والمبارزة في الحرب، فكتب إليه: أنا الفارس صاحب الغوطة؛ وقد عملت ما أشرت به، ولم أر منه إلى الآن إلا خيراً، فكتب إليه عبد الملك يرغبه ويؤمنه ويعده أنه متى صار إليه طائعاً أحسن مكافئته، وحمل إليه مالاً له قدر، فانصرف إليه وترك ما كان بصدده، فكان من المتقدمين عنده وحسن بلاؤه
[حكاية]
وقال: دخل مسلم بن الوليد يوماً على الفضل بن يحيى، وقد كان أتاه خبر سره، فجلس للشعراء فمدحوه وأثابهم، ونظر في حوائج الناس فقضاها، وتفرق الناس عنه وجلس للشراب، ومسلم غير حاضر لذلك، وإنما بلغه حين انقضى المجلس، فأدخل عليه فاستأذن في الإنشاد فأذن له فأنشد فيه:
أتتك المطايا تهتدي بمطية ... عليها فتى كالنصل يؤنسه النصل
حتى انتهى فيها إلى قوله:
وردت رواق الفضل آمل فضله ... فحظ الثناء الجزل نائله الجزل
فتى ترتعي الآمال مزنة جوده ... إذا كان مرعاها الأماني والمطل
تساقط يمناه الندى، وشماله ال ... ردى وعيون القول منطقه الفصل
ألح على الأيام بعري خطوبها ... على منهج ألفى أباه به قبل
أناف به العلياء يحيى وخالد ... فليس له مثل ولا لهما مثل
فروع أصابت مغرساً متمكناً ... وأصلاً فطابت حيث وجهها الأصل
بكف أبي العباس يستمطر الغنى ... وتستنزل النعمى ويسترعف الفصل
قال: فطرب الفضل طرباً شديداً، وأمر بأن تعد الأبيات فعدت، فكانت ثمانين، فأمر له بثمانين ألف درهم، وقال لولا أنها أكثر ما وصل بها شاعر لزدتك، ولكنه شأو لا يمكن تجاوزه، يعني أن الرشيد رسمه لمروان بن أبي حفصة وأمره بالجلوس معه والمقام عنده لمنادمته فأقام عنده.
[حكاية]
قال أبو الفرج الأصبهاني بإسناد ذكره أن عمرو بن بانه قال: ركبت يوماً إلى دار صالح بن الرشيد فاجتزت بمحمد بن جعفر بن موسى الهادي وكان معاقراً للصبوح، فألفيته في ذلك اليوم خالياً منه، فسألته عن السبب في تعطيله إياه فقال نيران علي غضبي - يعني جارية كانت لبعض النخاسين ببغداد، وكانت إحدى المحسنات وكانت بارعة الجمال ظريفة اللسان، وكان قد أفرط في حبها حتى عرف به - فقلت له: فما تحب؟ قال: أن تجعل طريقك على مولاها فإنه سيخرجها إليك، فإذا فعل دفعت رقعتي هذه إليها ودفع إلي رقعة فيها:
ضيعت عهد فتى لعهدك حافظ ... في حفظه عجب وفي تضييعك
ونأيت عنه فما به من حيلة ... إلا الوقوف إلى أوان رجوعك
متخشعاً يذري عليك دموعه ... أسفاً ويعجب من جمد دموعك
أن تفلتيه وتذهبي بفؤاده ... فبحسن وجهك لا بحسن صنيعك
فقلت له: نعم أنا أتحمل هذه الرسالة وكرامة علي ما فيها، حفظاً لروحك عليك فإني لا آمن أن يتمادى بك هذا الأمر. فأخذت الرقعة وجعلت طريقي على منزل النخاس. فبعث إلى الجارية أن أخرجي فخرجت، فدفعت إليها القرعة، وأخبرتها بخبري فضحكت، ورجعت إلى الموضع الذي خرجت منه، وجلست جلسة خفيفة ثم إذا بها قد وافتني ومعها رقعة فيها:
وما زلت تقصيني وتغري بي العدى ... وتهجرني حتى مرنت على الهجر
وتقطع أسبابي وتنسى مودتي ... فكيف ترى يا مالكي في الهوى صبري
فأصبحت لا أدري أيأساً تصبري ... على الهجر؟ أم أجد التصبر لا أدري