فانبرى إليه أحمد بن أبي داود كأنما أنشط من عقال يسأل في رجل من اليمامة، فأسهب في الشفاعة وأطنب، وذهب في القول كل مذهب، فقال له الواثق: يا أبا عبد الله لقد أكثرت في غير كثير ولا طيب فقال يا أمير المؤمنين إنه صديقي.
وأهون ما يعطي الصديق صديقه ... من الهين الموجود أن يتكلما
فقال الواثق: ما قدر هذا اليمامي أن يكون صديقك وإنما حسبه أن يكون من بعض خولك فقال: يا أمير المؤمنين إنه شهر بالاستشفاع بي عندك، وجعلني بمرأى مسمع من الرد والإسعاف، فإن لم أقم له هذا المقام كنت إذاً كما قال أمير المؤمنين:
خليلي ماذا أرتجي من غد امرئ ... طوى الكشح عني اليوم وهو مكين
وإن امرأ قد ضن عني بمنطق ... يسد به فقر امرئ لضنين
فقال الواثق لمحمد بن عبد الملك الزيات: بالله يا محمد ألا عجلت لأبي عبد الله حاجته ليسلم من هجنة المطل كما سلم من هجنة الرد.
[حكاية]
قيل سأل رجل حاتماً الطائي فقال: يا حاتم هل غلبك أحد في الكرم؟ قال: نعم غلام يتيم من طيء نزلت بفنائه وكان له عشرة أرؤس من الغنم، فعمد إلى رأس منها فذبحه. وأصلح من لحمه، وقدم إلي، وكان فيما قدم إلي الدماغ، فتناولت منه فاستطبته، فقلت: طيب والله. فخرج من بين يدي، وجعل يذبح رأساً رأساً، ويقدم إلي الدماغ وأنا لا أعلم. فلما خرجت لأرحل نظرت حول بيته دماً عظيماً وإذا هو قد ذبح الغنم بأسره. فقلت له: لم فعلت ذلك؟ فقال: يا سبحان الله تستطيب شيئاً أملكه فأبخل عليك به، إن ذلك لسبة على العرب قبيحة. قيل يا حاتم: فما الذي عوضته؟ قال: ثلاثمائة ناقة حمراء وخمسمائة رأس من الغنم، فقيل أنت إذاً أكرم منه فقال: بل هو أكرم، لأنه جاد بكل ما يمكله وإنما جدت بقليل من كثير.
[حكاية]
وحدث أبو اليقظان عن جويربة قال: أتى النصيب عبد الله بن جعفر فحمله وأعطاه وكساه فقال له قائل: يا ابن جعفر أعطيت هذا العبد الأسود هذه العطايا؟ فقال: والله إن كان هذا أسود إن ثناه لأبيض، وإن شعره ليهزني، ولقد استحق بما قال أكثر مما نال وما ذاك؟ إنما هي رواحل تنضى، وثياب تبلى؛ ودراهم تفنى، وثناؤه يبقى، ومديحه يروى.
[حكاية]
قدم زياد الأعجم على المهلب بن أبي صفرة بخراسان ونزل على ابنه حبيب فجلسا ذات عشية على شراب وفي الدار شجرة علها حمامة فجعلت تغرد وزياد الأعجم يقول:
تغني أنت في ذممي وعهدي ... وذمة والدي أن لا تضاري
وبيتك أصلحيه ولا تخافي ... على صفر مزغبة صغار
فإنك كلما غنيت صوتاً ... ذكرت أحبتي وذكرت داري
فإن هم يفتلوك طلبت ثأري ... بقتلهم لأنك في جواري
فأخذ حبيب سهماً فرماها فأثبتها فماتت، فقال له زياد قتلت جاري، بيني وبينك الأمير المهلب ثم أتى المهلب فأخبره فقال: يا حبيب ادفع إلى أبي أمامة ألف دينار قال حبيب: أعز الله الأمير كنت ألعب. فقال: أمع هذا لعب؟ جار أبي أمامة جاري، فدفع إليه حبيب ألف دينار فقال زياد الأعجم:
فلله عيناً من رأى كقضية ... قضاها فأمضاها الأمير المهلب
قضى ألف دينار بجار أجرته ... من الطير حضان على البيض ينعب
رماه حبيب بن المهلب رمية ... فأنفذه بالسهم والشمس تغرب
فألزمه عقل القتيل بزجرة ... وقال حبيب إنما كنت ألعب
فقال زياد لا يروع جاره ... وجارة جاري مثل جاري وأقرب
فلما سمعه المهلب أجازه بجائزة حسنة وصرفه مكرماً وبلغ هذا العشر الحجاج، فقال: ما أخطأت العرب إذ جعلت المهلب شيخها.
حكاية