قيل كان بين غسان بن عبادة وبين علي بن عيسى القمي وقعة أدت إلى عداوة، وكان علي بن عيسى ضامناً أعمال الخراج والضياع ببلده، فبقيت عليه بقية مبلغها أربعون ألف دينار، فألح المأمون في قتضائه إياها، ومطالبته بها إلى أن قال لعلي بن صالح حاجبه: طالب علي بن عيسى بما بقى عليه، وأنظره ثلاثة أيام، فإن أحضر المال قبل انقضائها وإلا فاضربه بالسياط، حتى يؤديها أو يتلف. فانصرف علي بن عيسى من دار المأمون آيساً من نفسه، إذ كان لا يعرف وجهاً يخلصه من المال، فقال له كاتبه: لو عرجت على غسان بن عباد وخبرته خبرك لرجوت لك أن يعينك على أمرك. فقال له: على ما بيني وبينه؟ قال: نعم، فإن الرجل أريحي كريم. فحملته الحالة التي هو عليها على قبول ذلك من كاتبه فدخلا على غسان فقام إليه وتلقاه بالقبول ووفاه حقه. فقال له علي بن عيسى: الحال التي بيني وبينك لا يوجب لي ما أبديت من كرمك فقال: ذلك بحسب أمر تقع المنافسة عليه والمضايقة فيه، والذي بيني وبينك دعه بحاله، ولدخولك داري حرمة توجب لك على بلوغ ما رجوته عندي، فاذكر إن كانت لك حاجة. فقص عليه كاتبه القصة. فقال: أرجو أن يكفيه الله تعالى، ولم يزد على هذا شيئاً فنهض علي بن عيسى وخرج " من عنده " آيساً " من خيره " نادناً على قصده غسان على ما بينهما وقال لكاتبه لما خرج: ما أفدتني بقصد غسان، وإلزامي الدخول عليه إلا تعجيل الشماتة والهوان وعساه أن يجد بذلك " السبيل " إلى التشفي بي. فلم يصر علي بن عيسى إلى داره حتى حضر إليه كاتب غسان ومعه البغال عليها المال، فبلغه سلامه، وقال: قد حضر المال، فتقدم بتسليمه، وبكر على دار أمير المؤمنين من غد فبكر علي بن عيسى فوجد غسان " قد سبقه إليها " ودخل على المأمون ومثل بين الصفين. وقال: يا أمير المؤمنين إن لعلي بن عيسى حرمة وخدمة، وسالف أصل ولأمير المؤمنين إليه إحسان هو ولي ربه وحفظه. وقد لحقه من الخسران والجائحة في ضمانه مما قد تعارفه الناس. وقد خرج أمير المؤمنين بالاشتداد عليه في المطالبة وتوعده من ضرب السوط بمال يتلف نفسه، ما أطار عقله وأذهب لبه وأدهشه عن الاضطراب في الخلاص، والاحتيال فيما عليه، مع عدم القدرة على ذلك، فإن رأى أمير المؤمنين أن يجريني على حسنى عادات كرمه عندي، فيشفعني فيه ببعض ما عليه، فهي صنيعة يجددها عندي تحرس ما تقدم من إحسانه، وتضاعف وجوب الشكر عليها، والاعتداد بسبوغ نعمه بها. ولم يزل بلطف به بهذا ونحوه إلى أن حط النصف مما عليه، واقتصر منه على عشرين ألف دينار. فقال غسان: على أن يجدد أمير المؤمنين عليه الضمان، ويضرفه يخلع تقوي نفسه، وترهف عزمه ويعرف بها مكان الرضى عنه. فأجابه المأمون إلى ذلك. قال: فأذن لي أمير المؤمنين أن أحمل الدواة إلى حضرته ليوقع بما رآه من هذا الإنعام، فيبقى شرف حملها علي وعلى عقبي من بعدي. فقال: افعل، فحمل الدواة وأحضرها فوقع المأمون له بما التمس، وخرج علي بن عيسى بالخلع عليه، والتوقيع بيده فلما حصل في داره حمل من المال عشرين ألف دينار وأعادها على غسان وشركه على جميل فعله معه، فقال لكاتبه: كأنني شفعت إلى أمير المؤمنين ليعيد إلي المال؟ ولم استحطه ذلك إلا ليتوفر عليه وينتفع به، وليس يعود إلي منه شيء أبداً. وأعاد المال إليه وكان ذلك سبب صلاح ما بينهما. وعرف علي بن عيسى قدر ما فعله معه غسان فلم يزل يخدمه إلى آخر العمر.