للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَحَقِيقَةُ الرِّضَا: مُوَافَقَتُهُ سُبْحَانَهُ فِي رِضَاهُ. بَلِ الَّذِي يُنَافِي الرِّضَا: أَنْ يُلِحَّ عَلَيْهِ. مُتَحَكِّمًا عَلَيْهِ، مُتَخَيِّرًا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ: هَلْ يُرْضِيهِ أَمْ لَا؟ كَمَنْ يُلِحُّ عَلَى رَبِّهِ فِي وِلَايَةِ شَخْصٍ، أَوْ إِغْنَائِهِ، أَوْ قَضَاءِ حَاجَتِهِ. فَهَذَا يُنَافِي الرِّضَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى يَقِينٍ أَنَّ مَرْضَاةَ الرَّبِّ فِي ذَلِكَ.

فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يَكُونُ لِلْعَبْدِ حَاجَةٌ يُبَاحُ لَهُ سُؤَالُهُ إِيَّاهَا. فَيُلِحُّ عَلَى رَبِّهِ فِي طَلَبِهَا حَتَّى يَفْتَحَ لَهُ مِنْ لَذِيذِ مُنَاجَاتِهِ وَسُؤَالِهِ، وَالذُّلِّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَمَلُّقِهِ، وَالتَّوَسُّلِ إِلَيْهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَتَفْرِيغِ الْقَلْبِ لَهُ، وَعَدَمِ تَعَلُّقِهِ فِي حَاجَتِهِ بِغَيْرِهِ -: مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ بِدُونِ الْإِلْحَاحِ. فَهَلْ يُكْرَهُ لَهُ هَذَا الْإِلْحَاحُ. وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ حَظًّا مِنْ حُظُوظِهِ؟

قِيلَ: هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أُمُورٍ.

أَحَدُهَا: أَنْ يَفْنَى بِمَطْلُوبِهِ وَحَاجَتِهِ عَنْ مُرَادِهِ وَرِضَاهُ، وَيَجْعَلَ الرَّبَّ تَعَالَى وَسِيلَةً إِلَى مَطْلُوبِهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ أَهَمَّ إِلَيْهِ مِنْهُ. فَهَذَا يُنَافِي كَمَالَ الرِّضَا بِهِ وَعَنْهُ.

الثَّانِي: أَنْ يُفْتَحَ عَلَى قَلْبِهِ - حَالَ السُّؤَالِ - مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَالذُّلِّ لَهُ، وَالْخُضُوعِ وَالتَّمَلُّقِ: مَا يُنْسِيهِ حَاجَتَهُ. وَيَكُونَ مَا فُتِحَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ حَاجَتِهِ. بِحَيْثُ يُحِبُّ أَنْ تَدُومَ لَهُ تِلْكَ الْحَالُ، وَتَكُونَ آثَرَ عِنْدَهُ مِنْ حَاجَتِهِ. وَفَرَحُهُ بِهَا أَعْظَمُ مِنْ فَرَحِهِ بِحَاجَتِهِ لَوْ عُجِّلَتْ لَهُ وَفَاتَهُ ذَلِكَ. فَهَذَا لَا يُنَافِي رِضَاهُ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّهُ لَأَنْ تَكُونَ لِي حَاجَةٌ إِلَى اللَّهِ. فَأَسْأَلَهُ إِيَّاهَا. فَيَفْتَحَ عَلَيَّ مِنْ مُنَاجَاتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَالتَّذَلُّلِ لَهُ، وَالتَّمَلُّقِ بَيْنَ يَدَيْهِ: مَا أُحِبُّ مَعَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ عَنِّي قَضَاءَهَا. وَتَدُومَ لِي تِلْكَ الْحَالُ.

وَفِي أَثَرٍ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَدْعُو رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَلَائِكَتِهِ: اقْضُوا حَاجَةَ عَبْدِي وَأَخِّرُوهَا، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ دُعَاءَهُ، وَيَدْعُوهُ آخَرُ. فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: اقْضُوا حَاجَتَهُ وَعَجِّلُوهَا. فَإِنِّي أَكْرَهُ صَوْتَهُ» .

وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ» .

<<  <  ج: ص:  >  >>