وَالَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ: أَنَّ الْبَقَاءَ فِي الذِّكْرِ أَكْمَلُ مِنَ الْفَنَاءِ فِيهِ وَالْغِيبَةِ بِهِ; لِمَا فِي الْبَقَاءِ مِنَ التَّفْصِيلِ وَالْمَعَارِفِ وَشُهُودِ الْحَقَائِقِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ وَمَا قَامَ بِالْعَبْدِ وَمَا قَامَ بِالرَّبِّ تَعَالَى وَشُهُودِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمَعْبُودِ. وَلَيْسَ فِي الْفَنَاءِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَالْفَنَاءُ - كَاسْمِهِ - الْفَنَاءُ، وَالْبَقَاءُ بَقَاءٌ كَاسْمِهِ، وَالْفَنَاءُ مَطْلُوبٌ لِغَيْرِهِ وَالْبَقَاءُ مَطْلُوبٌ لِنَفْسِهِ وَالْفِنَاءُ وَصْفُ الْعَبْدِ وَالْبَقَاءُ وَصْفُ الرَّبِّ. وَالْفَنَاءُ عَدَمٌ وَالْبَقَاءُ وُجُودٌ وَالْفَنَاءُ نَفْيٌ وَالْبَقَاءُ إِثْبَاتٌ وَالسُّلُوكُ عَلَى دَرْبِ الْفَنَاءِ مُخْطِرٌ، وَكَمْ بِهِ مِنْ مَفَازَةٍ وَمَهْلَكَةٍ، وَالسُّلُوكُ عَلَى دَرْبِ الْبَقَاءِ آمِنٌ; فَإِنَّهُ دَرِبَ عَلَيْهِ الْأَعْلَامُ وَالْهُدَاةُ وَالْخُفَرَاءُ، وَلَكِنَّ أَصْحَابَ الْفَنَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ طَوِيلٌ وَلَا يَشُكُّونَ فِي سَلَامَتِهِ وَإِيصَالِهِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَلَكِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ دَرْبَ الْفَنَاءِ أَقْرَبُ وَرَاكِبَهُ طَائِرٌ وَرَاكِبَ دَرْبِ الْبَقَاءِ سَائِرٌ، وَالْكُمَّلُ مِنَ السَّائِرِينَ يَرَوْنَ الْفَنَاءَ مَنْزِلَةً مِنْ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ وَلَيْسَ نُزُولُهَا عَامًّا لِكُلِّ سَائِرٍ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَاهَا وَلَا يَمُرُّ بِهَا، وَإِنَّمَا الدَّرْبُ الْأَعْظَمُ وَالطَّرِيقُ الْأَقْوَمُ هُوَ دَرْبُ الْبَقَاءِ. وَيَحْتَجُّونَ عَلَى صَاحِبِ الْفَنَاءِ بِالِانْتِقَالِ إِلَيْهِ مِنَ الْفَنَاءِ، وَإِلَّا فَهُوَ عِنْدَهُمْ عَلَى خَطَرٍ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْفَقْرِ]
[حَقِيقَةُ الْفَقْرِ]
فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْفَقْرِ
وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: ٥] مَنْزِلَةُ الْفَقْرِ
هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ أَشْرَفُ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْقَوْمِ، وَأَعْلَاهَا وَأَرْفَعُهَا. بَلْ هِيَ رُوحُ كُلِّ مَنْزِلَةٍ وَسِرُّهَا وَلُبُّهَا وَغَايَتُهَا.
وَهَذَا إِنَّمَا يُعْرَفُ بِمَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الْفَقْرِ. وَالَّذِي تُرِيدُ بِهِ هَذِهِ الطَّائِفَةُ أَخَصَّ مِنْ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ. فَإِنَّ لَفْظَ الْفَقْرِ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ.
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: ٢٧٣]- الْآيَةَ أَيِ الصَّدَقَاتُ لِهَؤُلَاءِ. كَانَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ نَحْوَ أَرْبَعِمِائَةٍ. لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَسَاكِنُ فِي الْمَدِينَةِ وَلَا عَشَائِرُ. وَكَانُوا قَدْ حَبَسُوا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute