لَكَ رَقَبَتُهُ، وَرَغِمَ لَكَ أَنْفُهُ، وَفَاضَتْ لَكَ عَيْنَاهُ، وَذَلَّ لَكَ قَلْبُهُ.
يَا مَنْ أَلُوذُ بِهِ فِيمَا أُؤَمِّلُهُ ... وَمَنْ أَعُوذُ بِهِ مِمَّا أُحَاذِرُهُ
لَا يَجْبُرُ النَّاسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسِرُهُ ... وَلَا يَهِيضُونَ عَظْمًا أَنْتَ جَابِرُهُ
فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ آثَارِ التَّوْبَةِ الْمَقْبُولَةِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ فَلْيَتَّهِمْ تَوْبَتَهُ وَلْيَرْجِعْ إِلَى تَصْحِيحِهَا، فَمَا أَصْعَبَ التَّوْبَةَ الصَّحِيحَةَ بِالْحَقِيقَةِ، وَمَا أَسْهَلَهَا بِاللِّسَانِ وَالدَّعْوَى! وَمَا عَالَجَ الصَّادِقُ بِشَيْءٍ أَشَقَّ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْبَةِ الْخَالِصَةِ الصَّادِقَةِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
وَأَكْثَرُ النَّاسِ مِنَ الْمُتَنَزِّهِينَ عَنِ الْكَبَائِرِ الْحِسِّيَّةِ وَالْقَاذُورَاتِ فِي كَبَائِرَ مِثْلِهَا أَوْ أَعْظَمَ مِنْهَا أَوْ دُونَهَا، وَلَا يَخْطُرُ بِقُلُوبِهِمْ أَنَّهَا ذُنُوبٌ لِيَتُوبُوا مِنْهَا، فَعِنْدَهُمْ - مِنَ الْإِزْرَاءِ عَلَى أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَاحْتِقَارِهِمْ، وَصَوْلَةِ طَاعَاتِهِمْ، وَمِنَّتِهِمْ عَلَى الْخَلْقِ بِلِسَانِ الْحَالِ، وَاقْتِضَاءِ بَوَاطِنِهِمْ لِتَعْظِيمِ الْخَلْقِ لَهُمْ عَلَى طَاعَاتِهِمْ، اقْتِضَاءً لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ غَيْرِهِمْ، وَتَوَابِعِ ذَلِكَ - مَا هُوَ أَبْغَضُ إِلَى اللَّهِ، وَأَبْعَدُ لَهُمْ عَنْ بَابِهِ مِنْ كَبَائِرِ أُولَئِكَ، فَإِنْ تَدَارَكَ اللَّهُ أَحَدَهُمْ بِقَاذُورَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ يُوقِعُهُ فِيهَا لِيَكْسِرَ بِهَا نَفْسَهُ، وَيُعَرِّفَهُ قَدْرَهُ، وَيُذِلَّهُ بِهَا، وَيُخْرِجَ بِهَا صَوْلَةَ الطَّاعَةِ مَنْ قَلْبِهِ، فَهِيَ رَحْمَةٌ فِي حَقِّهِ، كَمَا أَنَّهُ إِذَا تَدَارَكَ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ، وَإِقْبَالٍ بِقُلُوبِهِمْ إِلَيْهِ، فَهُوَ رَحْمَةٌ فِي حَقِّهِمْ، وَإِلَّا فَكِلَاهُمَا عَلَى خَطَرٍ.
[فَصْلٌ أَعْذَارُ الْخَلِيقَةِ مِنْهَا مَحْمُودٌ وَمِنْهَا مَذْمُومٌ]
فَصْلٌ
وَأَمَّا طَلَبُ أَعْذَارِ الْخَلِيقَةِ، فَهَذَا لَهُ وَجْهَانِ: وَجْهٌ مَحْمُودٌ، وَوَجْهٌ مَذْمُومٌ حَرَامٌ.
فَالْمَذْمُومُ: أَنْ تَطْلُبَ أَعْذَارَهُمْ، نَظَرًا إِلَى الْحُكْمِ الْقَدَرِيِّ، وَجَرَيَانِهِ عَلَيْهِمْ، شَاءُوا أَمْ أَبَوْا، فَتَعْذِرَهُمْ بِالْقَدَرِ.
وَهَذَا الْقَدَرُ يَنْتَهِي إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ السَّالِكِينَ، وَالنَّاظِرِينَ إِلَى الْقَدَرِ، الْفَانِينَ فِي شُهُودِهِ، وَهُوَ - كَمَا تَقَدَّمَ - دَرْبٌ خَطِرٌ جِدًّا، قَلِيلُ الْمَنْفَعَةِ، لَا يُنْجِي وَحْدَهُ.
وَأَظُنُّ هَذَا مُرَادَ صَاحِبِ الْمَنَازِلِ، لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ:
مُشَاهَدَةُ الْعَبْدِ الْحُكْمَ لَمْ يَدَعْ لَهُ اسْتِحْسَانَ حَسَنَةٍ، وَلَا اسْتِقْبَاحَ سَيِّئَةٍ، لِصُعُودِهِ مِنْ جَمِيعِ الْمَعَانِي إِلَى مَعْنَى الْحُكْمِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute