يَعْنِي: تَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ تَعَلُّقًا مُقْتَرِنًا بِهِمَّةِ الْمُحِبِّ، وَأُنْسِهِ بِالْمَحْبُوبِ، فِي حَالَتَيْ بَذْلِهِ وَمَنْعِهِ، وَإِفْرَادِهِ بِذَلِكَ التَّعَلُّقِ. بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ فِيهِ نَصِيبٌ.
وَإِنَّمَا أَشَارَ إِلَى أَنَّهَا بَيْنَ الْهِمَّةِ وَالْأُنْسِ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ لَمَّا كَانَتْ هِيَ نِهَايَةُ شِدَّةِ الطَّلَبِ، وَكَانَ الْمُحِبُّ شَدِيدَ الرَّغْبَةِ وَالطَّلَبِ: كَانَتِ الْهِمَّةُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ حُبِّهِ، وَجُمْلَةِ صِفَاتِهِ. وَلَمَّا كَانَ الطَّلَبُ بِالْهِمَّةِ قَدْ يَعْرَى عَنِ الْأُنْسِ، وَكَانَ الْمُحِبُّ لَا يَكُونُ إِلَّا مُسْتَأْنِسًا بِجَمَالِ مَحْبُوبِهِ، وَطَمَعِهِ بِالْوُصُولِ إِلَيْهِ. فَمِنْ هَذَيْنِ يَتَوَلَّدُ الْأُنْسُ: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُحِبُّ مَوْصُوفًا بِالْأُنْسِ. فَصَارَتِ الْمَحَبَّةُ قَائِمَةً بَيْنَ الْهِمَّةِ وَالْأُنْسِ.
وَيُرِيدُ بِالْبَذْلِ وَالْمَنْعِ أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا بَذْلُ الرُّوحِ وَالنَّفْسِ لِمَحْبُوبِهِ، وَمَنْعُهَا عَنْ غَيْرِهِ. فَيَكُونُ الْبَذْلُ وَالْمَنْعُ صِفَةَ الْمُحِبِّ، وَإِمَّا بَذْلُ الْحَبِيبِ وَمَنْعُهُ. فَتَتَعَلَّقُ هِمَّةُ الْمُحِبِّ بِهِ فِي حَالَتَيْ بَذْلِهِ وَمَنْعِهِ.
وَيُرِيدُ بِالْإِفْرَادِ مَعْنَيَيْنِ: إِمَّا إِفْرَادُ الْمَحْبُوبِ وَتَوْحِيدُهُ بِذَلِكَ التَّعَلُّقِ. وَإِمَّا فَنَاءُهُ فِي مَحَبَّتِهِ، بِحَيْثُ يَنْسَى نَفْسَهُ وَصِفَاتِهِ فِي ذِكْرِ مَحَاسِنِ مَحْبُوبِهِ، حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا الْمَحْبُوبُ وَحْدَهُ.
وَالْمَقْصُودُ: إِفْرَادُ الْمُحِبِّ لِمَحْبُوبِهِ بِالتَّوْحِيدِ وَالْمَحَبَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ الْمَحَبَّةُ أَوَّلُ أَوْدِيَةِ الْفَنَاءِ]
فَصْلٌ
قَالَ: وَالْمَحَبَّةُ: أَوَّلُ أَوْدِيَةِ الْفَنَاءِ، وَالْعَقَبَةُ الَّتِي يَنْحَدِرُ مِنْهَا عَلَى مَنَازِلِ الْمَحْوِ. وَهِيَ آخِرُ مَنْزِلٍ تَلْتَقِي فِيهِ مُقَدِّمَةُ الْعَامَّةِ، وَسَاقَةُ الْخَاصَّةِ.
إِنَّمَا كَانَتْ الْمَحَبَّةُ أَوَّلَ أَوْدِيَةِ الْفَنَاءِ: لِأَنَّهَا تُفْنِي خَوَاطِرَ الْمُحِبِّ عَنِ التَّعَلُّقِ بِالْغَيْرِ. وَأَوَّلُ مَا يَفْنَى مِنَ الْمُحِبِّ: خَوَاطِرُهُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَا سِوَى مَحْبُوبِهِ. لِأَنَّهُ إِذَا انْجَذَبَ قَلْبُهُ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَى مَحْبُوبِهِ انْجَذَبَتْ خَوَاطِرُهُ تَبَعًا.
وَيُرِيدُ بِمَنَازِلِ الْمَحْوِ مَقَامَاتِهِ.
وَأَوَّلُهَا: مَحْوُ الْأَفْعَالِ فِي فِعْلِ الْحَقِّ تَعَالَى. فَلَا يَرَى لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ فِعْلًا.
وَالثَّانِي: مَحْوُ الصِّفَاتِ الَّتِي فِي الْعَبْدِ. فَيَرَاهَا عَارِيَةً أُعِيرَهَا، وَهِبَةً وُهِبَهَا. لِيَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى بَارِئِهِ وَفَاطِرِهِ، وَعَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَصِفَاتِهِ. فَيَعْلَمُ بِوَاسِطَةِ حَيَاتِهِ: مَعْنَى حَيَاةِ رَبِّهِ، وَبِوَاسِطَةِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَكَلَامِهِ وَغَضَبِهِ وَرِضَاهُ: