الْكَشْفِ. فَإِنَّهُ مَتَّى تَرَكَ الْقَصْدَ خَلَعَ رِبْقَةَ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ عُنُقِهِ. وَلَكِنْ يَجْعَلُ قَصْدَهُ سَائِرًا طَالِبًا لِكَشْفِهِ يَؤُمُّهُ. فَإِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ سَلَّمَهُ إِلَيْهِ. وَصَارَ الْحُكْمُ لِلْكَشْفِ؛ إِذِ الْقَصْدُ آلَةٌ وَوَسِيلَةٌ إِلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ كَشْفًا صَحِيحًا مُطَابِقًا لِلْحَقِّ فِي نَفْسِهِ: كَشَفَ لَهُ عَنْ آفَاتِ الْقَصْدِ، وَمُفْسِدَاتِهِ، وَمُصَحِّحَاتِهِ وَعُيُوبِهِ. فَأَقْبَلَ عَلَى تَصْحِيحِهِ بِنُورِ الْكَشْفِ. لَا أَنَّ صَاحِبَ الْقَصْدِ تَرَكَ الْقَصْدَ لِأَجْلِ الْكَشْفِ فَهَذَا سَيْرُ أَهْلِ الْإِلْحَادِ، النَّاكِبِينَ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ وَالرَّشَادِ.
وَأَمَّا تَرْكُ الرَّسْمِ إِلَى الْحَقِيقَةِ فَإِنَّهُ يُشِيرُ بِهِ إِلَى الْفَنَاءِ. فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ تَسْلِيمِ صَاحِبِ الْفَنَاءِ: تَسْلِيمَ ذَاتِهِ لِيَفْنَى فِي شُهُودِ الْحَقِيقَةِ. فَإِنَّ ذَاتَ الْعَبْدِ هِيَ رَسْمٌ. وَالرَّسْمُ تُفْنِيهِ الْحَقِيقَةُ، كَمَا يُفْنِي النُّورُ الظُّلْمَةَ؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَصْحَابِ الْفَنَاءِ: أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ لَا يَرَاهُ سِوَاهُ. وَلَا يُشَاهِدُهُ غَيْرُهُ. لَا بِمَعْنَى الِاتِّحَادِ، وَلَكِنْ بِمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُشَاهِدُهُ الْعَبْدُ حَتَّى يَفْنَى عَنْ إِنِّيَّتِهِ وَرَسْمِهِ، وَجَمِيعِ عَوَالِمِهِ، فَيَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ. وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ. هَذَا كَإِجْمَاعٍ مِنَ الطَّائِفَةِ، بَلْ هُوَ إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ.
[الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ تَسْلِيمُ مَا دُونُ الْحَقِّ إِلَى الْحَقِّ]
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: تَسْلِيمُ مَا دُونُ الْحَقِّ إِلَى الْحَقِّ، مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ رُؤْيَةِ التَّسْلِيمِ، بِمُعَايَنَةِ تَسْلِيمِ الْحَقِّ إِيَّاكَ إِلَيْهِ.
هَذِهِ الدَّرَجَةُ تَكْمِلَةُ الدَّرَجَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. فَإِنَّ التَّسْلِيمَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا بِدَايَةٌ لَهَا. وَهِيَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الدَّرَجَةِ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ. فَالْأُولَى: بِدَايَةٌ، وَالثَّانِيَةُ: وَسَطٌ وَالثَّالِثَةُ: نِهَايَةٌ.
قَوْلُهُ: تَسْلِيمُ مَا دُونُ الْحَقِّ إِلَى الْحَقِّ. يُرِيدُ بِهِ: اضْمِحْلَالَ رُسُومِ الْخَلْقِ فِي شُهُودِ الْحَقِيقَةِ. وَكُلُّ مَا دُونُ الْحَقِّ رُسُومٌ. فَإِذَا سَلَّمَ رَسْمَهُ الْخَاصَّ إِلَى رَبِّهِ: حَصَلَ لَهُ حَقِيقَةُ الْفَنَاءِ. وَهَذَا التَّسْلِيمُ نَوْعَانِ.
أَحَدُهُمَا: تَسْلِيمُ رَسْمِهِ الْخَاصِّ بِهِ.
وَالثَّانِي: تَسْلِيمُ رُسُومِ الْكَائِنَاتِ، وَرُؤْيَةِ تَلَاشِيهَا وَاضْمِحْلَالِهَا فِي عَيْنِ الْحَقِيقَةِ. وَهَذَا عِلْمٌ وَمَعْرِفَةٌ. وَالْأَوَّلُ حَالٌ.
قَوْلُهُ: وَالسَّلَامَةُ مِنْ رُؤْيَةِ التَّسْلِيمِ؛ أَيْ يَنْسَلِبُ أَيْضًا مِنْ رَسْمِ رُؤْيَةِ التَّسْلِيمِ، فَإِنَّ الرُّؤْيَةَ أَيْضًا رَسْمٌ مِنْ جُمْلَةِ الرُّسُومِ. فَمَا دَامَ مُسْتَصْحِبًا لَهَا: لَمْ يُسَلِّمِ التَّسْلِيمَ التَّامَّ. وَقَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ مِنْ مُنَازَعَاتِ رَسْمِهِ.
ثُمَّ عَرَّفَ كَيْفِيَّةَ هَذَا التَّسْلِيمِ، فَقَالَ: بِمُعَايَنَةِ تَسْلِيمِ الْحَقِّ إِيَّاكَ إِلَيْهِ؛ أَيْ يَنْكَشِفُ