النَّوْعُ الثَّانِي: شَوْبُ الْعَادَةِ: وَهُوَ أَنْ يُمَازِجَ الْعُبُودِيَّةَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ عَوَائِدِ النَّفْسِ تَكُونُ مُنَفِّذَةً لَهَا، مُعِينَةً عَلَيْهَا، وَصَاحِبُهَا يَعْتَقِدُهَا قُرْبَةً وَطَاعَةً، كَمَنِ اعْتَادَ الصَّوْمَ - مَثَلًا - وَتَمَرَّنَ عَلَيْهِ. فَأَلِفَتْهُ النَّفْسُ، وَصَارَ لَهَا عَادَةً تَتَقَاضَاهَا أَشَدَّ اقْتِضَاءٍ. فَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا التَّقَاضِيَ مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ. وَإِنَّمَا هُوَ تَقَاضِي الْعَادَةِ.
وَعَلَامَةُ هَذَا أَنَّهُ إِذَا عَرَضَ عَلَيْهَا طَاعَةً دُونَ ذَلِكَ، وَأَيْسَرَ مِنْهُ، وَأَتَمَّ مَصْلَحَةً لَمْ تُؤْثِرْهَا إِيثَارَهَا لِمَا اعْتَادَتْهُ وَأَلِفَتْهُ. كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّالِحِينَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ قَالَ: حَجَجْتُ كَذَا وَكَذَا حَجَّةً عَلَى التَّجْرِيدِ، فَبَانَ لِي أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ كَانَ مَشُوبًا بِحَظِّي. وَذَلِكَ أَنَّ وَالِدَتِي سَأَلَتْنِي أَنْ أَسْتَقِيَ لَهَا جَرْعَةَ مَاءٍ. فَثَقُلَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِي. فَعَلِمْتُ أَنَّ مُطَاوَعَةَ نَفْسِي فِي الْحَجَّاتِ كَانَ بِحَظِّ نَفْسِي وَإِرَادَتِهَا. إِذْ لَوْ كَانَتْ نَفْسِي فَانِيَةً لَمْ يَصْعُبْ عَلَيْهَا مَا هُوَ حَقٌّ فِي الشَّرْعِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: وُقُوفُ هِمَّتِهِ عِنْدَ الْخِدْمَةِ. وَذَلِكَ عَلَامَةُ ضَعْفِهَا وَقُصُورِهَا. فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَحْضَ لَا تَقِفُ هِمَّتُهُ عِنْدَ الْخِدْمَةِ. بَلْ هِمَّتُهُ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ؛ إِذْ هِيَ طَالِبَةٌ لِرِضَا مَخْدُومِهِ. فَهُوَ دَائِمًا مُسْتَصْغِرٌ خِدْمَتَهُ لَهُ. لَيْسَ وَاقِفًا عِنْدَهَا. وَالْقَنَاعَةُ تُحْمَدُ مِنْ صَاحِبِهَا إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِنَّهَا عَيْنُ الْحِرْمَانِ. فَالْمُحِبُّ لَا يَقْنَعُ بِشَيْءٍ دُونَ مَحْبُوبِهِ. فَوُقُوفُ هِمَّةِ الْعَبْدِ مَعَ خِدْمَتِهِ وَأُجْرَتِهَا: سُقُوطٌ فِيهَا وَحِرْمَانٌ.
[الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ تَهْذِيبُ الْحَالِ]
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: تَهْذِيبُ الْحَالِ. وَهُوَ أَنْ لَا يَجْنَحَ الْحَالُ إِلَى عِلْمٍ، وَلَا يَخْضَعَ لِرَسْمٍ، وَلَا يَلْتَفِتَ إِلَى حَظٍّ.
أَمَّا جُنُوحُ الْحَالِ إِلَى الْعِلْمِ فَهُوَ نَوْعَانِ: مَمْدُوحٌ، وَمَذْمُومٌ.
فَالْمَمْدُوحُ: الْتِفَاتُهُ إِلَيْهِ، وَإِصْغَاؤُهُ إِلَى مَا يَأْمُرُ بِهِ، وَتَحْكِيمُهُ عَلَيْهِ، فَمَتَى لَمْ يَجْنَحْ إِلَيْهِ هَذَا الْجُنُوحَ كَانَ حَالًا مَذْمُومًا. نَاقِصًا مُبْعَدًا عَنِ اللَّهِ. فَإِنَّ كُلَّ حَالٍ لَا يَصْحَبُهُ عِلْمٌ يَخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ خُدَعِ الشَّيْطَانِ. وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الَّذِي أَفْسَدَ عَلَى أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ أَحْوَالَهُمْ، وَعَلَى أَهْلِ الثُّغُورِ ثُغُورَهُمْ، وَشَرَّدَهُمْ عَنِ اللَّهِ كُلَّ مُشَرَّدٍ، وَطَرَدَهُمْ عَنْهُ كُلَّ مَطْرَدٍ؛ حَيْثُ لَمْ يُحَكِّمُوا عَلَيْهِ الْعِلْمَ، وَأَعْرَضُوا عَنْهُ صَفْحًا، حَتَّى قَادَهُمْ إِلَى الِانْسِلَاخِ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ، وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ.
وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ سَيِّدُ الطَّائِفَةِ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ - لَمَّا قِيلَ لَهُ: أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute