[فَصْلٌ تَمَكُّنُ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ فِي الْقَلْبِ]
فَصْلٌ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَمَكَّنُ الْإِيمَانُ وَالْعِلْمُ مِنْ قَلْبِهِ، فَإِذَا جَاءَ الْأَمْرُ قَامَ إِلَيْهِ، وَبَادَرَ بِجَمْعِيَّتِهِ، فَإِنْ صَحِبَتْهُ وَإِلَّا طَرَحَهَا، وَبَادَرَ إِلَى الْأَمْرِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْجَمْعِيَّةَ فَضْلٌ، وَالْأَمْرَ فَرْضٌ، وَمَنْ ضَيَّعَ الْفُرُوضَ لِلْفُضُولِ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُصُولِ، لَكِنْ إِذَا جَاءَتِ الْمَنْدُوبَاتُ، الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْأَرْبَاحِ وَالْمَكَاسِبِ الْعَظِيمَةِ، وَالْمَصَالِحِ الرَّاجِحَةِ مِنْ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ، وَالْجِهَادِ الْمُسْتَحَبِّ، وَطَلَبِ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْخُلْطَةِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا وَيَنْفَعُ غَيْرُهُ، وَلَمْ يُؤْثِرْهَا عَلَى جَمْعِيَّتِهِ، إِذَا رَأَى جَمْعِيَّتَهُ خَيْرًا لَهُ وَأَنْفَعَ مِنْهَا - فَهَذَا غَيْرُ آثِمٍ وَلَا مُفَرِّطٍ إِلَّا إِذَا تَرَكَهَا رَغْبَةً عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَاسْتِبْدَالًا بِالْجَمْعِيَّةِ، فَهَذَا نَاقِصٌ.
أَمَّا إِذَا قَامَ بِهَا أَحْيَانًا وَتَرَكَهَا أَحْيَانًا لِاشْتِغَالِهِ بِجَمْعِيَّتِهِ، فَهَذَا غَيْرُ مَذْمُومٍ، بَلْ هَذَا حَقِيقَةُ الِاعْتِكَافِ الْمَشْرُوعِ، وَهُوَ جَمْعِيَّةُ الْعَبْدِ عَلَى رَبِّهِ وَخَلْوَتُهُ بِهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَجِرُ بِحَصِيرٍ فِي الْمَسْجِدِ فِي اعْتِكَافِهِ، يَخْلُو بِهِ مَعَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يَكُنْ يَشْتَغِلُ بِتَعْلِيمِ الصَّحَابَةِ وَتَذْكِيرِهِمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَلِهَذَا كَانَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِلْمُعْتَكِفِ إِقْرَاءُ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ، وَخَلْوَتُهُ لِلذِّكْرِ وَالْعِبَادَةِ أَفْضَلُ لَهُ، وَاحْتَجُّوا بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَصْلٌ وَأَكْمَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ إِذَا جَاءَهُ تَفْرِقَةُ الْأَمْرِ، وَرَآهَا أَرْجَحَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْجَمْعِيَّةِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْجَمْعُ فِي التَّفْرِقَةِ اشْتَرَى الْفَاضِلَ بِالْمَفْضُولِ، وَالرَّاجِحَ بِالْمَرْجُوحِ، فَإِذَا كَانَ الْمَنْدُوبُ مَفْضُولًا مَرْجُوحًا، وَالْجَمْعُ خَيْرًا مِنْهُ اشْتَغَلَ بِالْجَمْعِ عَنْهُ، فَهَذَا أَعْلَى الْأَقْسَامِ، وَالرَّجُلُ كُلُّ الرَّجُلِ مَنْ يَرُدُّ مِنْ تَفْرِقَتِهِ عَلَى جَمْعِهِ، وَمِنْ جَمْعِهِ عَلَى تَفْرِقَتِهِ، فَيُقَوِّي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، وَلَا يُلْغِي الْحَرْبَ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا جَاءَتْ تَفْرِقَةُ الْأَمْرِ جَدَّ فِيهَا وَقَامَ بِهَا لِجَمْعِيَّتِهِ، مُقَوِّيًا لَهَا بِالْأَمْرِ، فَإِذَا جَاءَتْ حَالَةُ الْجَمْعِيَّةِ تَقَوَّى بِهَا عَلَى تَفْرِقَةِ الْأَمْرِ وَالْبَقَاءِ بِهِ، فَيَرُدُّ مِنْ هَذَا عَلَى هَذَا، وَمِنْ هَذَا عَلَى هَذَا، فَإِذَا جَاءَتْ تَفْرِقَةُ الْأَمْرِ قَالَ: أَتَفَرَّقُ لِلَّهِ لِيَجْمَعَنِي عَلَيْهِ، وَإِذَا جَاءَتِ الْجَمْعِيَّةُ قَالَ: أَجْتَمِعُ لِأَتَقَوَّى عَلَى أَمْرِ اللَّهِ وَرِضَاهُ، لَا لِمُجَرَّدِ حَظِّي وَلَذَّتِي مِنْ هَذِهِ الْجَمْعِيَّةِ، فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يَغِيبُ بِحَظِّهِ مِنْهَا، وَلَذَّتِهَا وَنَعِيمِهَا وَطِيبِهَا، عَنْ مُرَادِ اللَّهِ مِنْهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute