وَيَا لَلَّهِ الْعَجَبَ! أَلَيْسَتِ الْكَوَائِنُ كُلُّهَا مُتَعَلِّقَةً بِالْأَسْبَابِ؟ أَوَلَيْسَ الرَّبُّ تَعَالَى - كُلَّ وَقْتٍ - يَسُوقُ الْمَقَادِيرَ إِلَى الْمَوَاقِيتِ الَّتِي وَقَّتَهَا لَهَا، وَيُظْهِرُهَا بِأَسْبَابِهَا الَّتِي سَبَّبَهَا لَهَا، وَيَخُصُّهَا بِمَحَالِّهَا مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا لَهَا؟ أَوَلَيْسَ قَدْ قَدَّرَ اللَّهُ الْمَقَادِيرَ، وَسَبَّبَ الْأَسْبَابَ الَّتِي تَظْهَرُ بِهَا، وَوَقَّتَ الْمَوَاقِيتَ الَّتِي تَنْتَهِي إِلَيْهَا، وَنَصَبَ الْعِلَلَ الَّتِي تُوجَدُ لِأَجْلِهَا، وَجَعَلَ لِلْأَسْبَابِ أَسْبَابًا أُخَرَ تُعَارِضُهَا وَتُدَافِعُهَا؟ فَهَذِهِ تَقْتَضِي آثَارَهَا، وَهَذِهِ تَمْنَعُهَا اقْتِضَاءَهَا، وَتَطْلُبُ ضِدَّ مَا تَطْلُبُهُ تِلْكَ.
أَوَلَيْسَ قَدْ رَتَّبَ الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ عَلَى ذَلِكَ، وَجَعَلَهُ مَحَلَّ الِامْتِحَانِ وَالِابْتِلَاءِ وَالْعُبُودِيَّةِ؟ أَوَلَيْسَ عِمَارَةُ الدَّارَيْنِ - أَعْنِي الْجَنَّةَ وَالنَّارَ - بِالْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ وَالْحِكَمِ؟ وَلَا حَاجَةَ بِنَا أَنْ نَقُولَ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْأَسْبَابَ وَنَصَبَ الْعِلَلَ، فَإِنَّ ذِكْرَ هَذَا مِنْ بَابِ بَيَانِ الْوَاضِحَاتِ الَّتِي لَا يَجْهَلُهَا إِلَّا أَجْهَلُ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَقَلُّهُمْ نَصِيبًا مِنَ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ.
أَوَلَيْسَ الْقُرْآنُ - مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ - قَدْ عُلِّقَتْ أَخْبَارُهُ وَقِصَصُهُ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ، وَأَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ وَزَوَاجِرُهُ، وَثَوَابُهُ وَعِقَابُهُ: بِالْأَسْبَابِ، وَالْحِكَمِ وَالْعِلَلِ؟ وَعُلِّقَتْ فِيهِ الْمَعَارِفُ بِالْوَسَائِطِ، وَالْقَضَايَا بِالْحُجَجِ، وَالْعُقُوبَاتُ وَالْمَثُوبَاتُ بِالْجِنَايَاتِ وَالطَّاعَاتِ؟
أَوَلَيْسَ ذَلِكَ مُقْتَضَى الرِّسَالَةِ، وَمُوجَبَ الْمُلْكِ الْحَقِّ، وَالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ؟
نَعَمْ، مَرْجِعُ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى الْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ الْمَقْرُونَةِ بِالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ، وَالْمَصْلَحَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَوَضْعِ الْأَشْيَاءِ فِي مَوَاضِعِهَا، وَتَنْزِيلِهَا فِي مَنَازِلِهَا، وَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي جَعَلَ لَهَا تِلْكَ الْمَوَاضِعَ وَالْمَنَازِلَ، وَالصِّفَاتِ وَالْمَقَادِيرَ، فَلَا تَلْبِيسَ هُنَاكَ بِوَجْهٍ مَا، وَإِنَّمَا التَّلْبِيسُ فِي إِخْرَاجِ الْأَسْبَابِ عَنْ مَوَاضِعِهَا وَمَوْضُوعِهَا وَإِلْغَائِهَا، أَوْ فِي إِنْزَالِهَا غَيْرَ مَنْزِلَتِهَا، وَالْغَيْبَةِ بِهَا عَنْ مُسَبِّبِهَا وَوَاضِعِهَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
[فَصْلٌ الثَّانِي تَلْبِيسُ أَهِلَ الْغَيْرَةِ عَلَى الْأَوْقَاتِ بِإِخْفَائِهَا]
فَصْلٌ
قَالَ: " وَالتَّلْبِيسُ الثَّانِي: تَلْبِيسُ أَهِلِ الْغَيْرَةِ عَلَى الْأَوْقَاتِ بِإِخْفَائِهَا، وَعَلَى الْكَرَامَاتِ بِكِتْمَانِهَا ".
إِطْلَاقُ " التَّلْبِيسِ " عَلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ أَوْلَى مِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الدَّرَجَةِ الْأُولَى، فَإِنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute